مركز الصفوة الثقافي
رائعه احلام مستغانمي (( ذاكره الجسد )) الفصل االرابع  الجزء الاول 278082810
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة يرجى التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا
او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة المنتدى
سنتشرف بتسجيلك
شكرا رائعه احلام مستغانمي (( ذاكره الجسد )) الفصل االرابع  الجزء الاول 829894
ادارة المنتدى(الجنرال) رائعه احلام مستغانمي (( ذاكره الجسد )) الفصل االرابع  الجزء الاول 103798
مركز الصفوة الثقافي
رائعه احلام مستغانمي (( ذاكره الجسد )) الفصل االرابع  الجزء الاول 278082810
عزيزي الزائر / عزيزتي الزائرة يرجى التكرم بتسجبل الدخول اذا كنت عضو معنا
او التسجيل ان لم تكن عضو وترغب في الانضمام الي اسرة المنتدى
سنتشرف بتسجيلك
شكرا رائعه احلام مستغانمي (( ذاكره الجسد )) الفصل االرابع  الجزء الاول 829894
ادارة المنتدى(الجنرال) رائعه احلام مستغانمي (( ذاكره الجسد )) الفصل االرابع  الجزء الاول 103798
مركز الصفوة الثقافي
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 رائعه احلام مستغانمي (( ذاكره الجسد )) الفصل االرابع الجزء الاول

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
أسيرة الأحزان

أسيرة الأحزان


عدد المساهمات : 1030
تاريخ التسجيل : 14/02/2009
العمر : 52
الموقع : www.elite.ahladalil.com

رائعه احلام مستغانمي (( ذاكره الجسد )) الفصل االرابع  الجزء الاول Empty
مُساهمةموضوع: رائعه احلام مستغانمي (( ذاكره الجسد )) الفصل االرابع الجزء الاول   رائعه احلام مستغانمي (( ذاكره الجسد )) الفصل االرابع  الجزء الاول I_icon_minitimeالأربعاء يونيو 02, 2010 9:58 pm





كان زياد يحدّثني عن شيء ما عندما صمت فجأة، وتوقفت عيناه عليك وهو يراك تجتازين باب المطعم.

فاستدرت بدوري نحو الباب.. ورأيتك تتقدّمين نحونا في ثوبٍ أخضر.. أنيقة، مغرية، كما لم تكوني يوماً.
وقف زياد ليسلّم عليك وأنت تقتربين منّا. وبقيت أنا من دهشتي جالساً. كان من الواضح أنه لم يتوقّعك هكذا.

ها أنت ذي أخيراً..

أحسست أن شيئاً ما يسمّرني إلى ذلك الكرسي، وكأن تعب كلّ الأسابيع الماضية، وكلّ عذابي بعدك قد نزل عليّ فجأة، ومنع رجليّ من الوقوف.

ها أنت ذي أخيراً.. أهذه أنت حقاً!؟

وقبل أن أفكر في تعريفكما ببعض، كنتِ قد قدّمت نفسك لزياد، وكان هو بدوره على وشك أن يعرّفك بنفسه عندما قاطعته قائلة:

- دعني أحزر.. ألست زياد خليل؟

ووقف زياد مدهوشاً قبل أن يسألك:

- كيف عرفتِ؟

استدرتِ نحوي عندئذٍ وكأنك تكتشفين وجودي هناك، فوضعت قبلتين على خدّي وقلت وأنت توجّهين الحديث إليه:

- أنت تملك شبكة إعلان قوية في شخص هذا الرجل..

ثم سألتني وأنت تتفحّصين ملامحي:

- لقد تغيرت بعض الشيء.. ما الذي حدث لك في هذه العطلة؟

تدخّل زياد ليقول ساخراً:

- لقد رسم إحدى عشرة لوحة في شهر ونصف.. إنه لم يفعل شيئاً غير هذا. نسي حتى أن يأكل ونسي أن ينام.. أعتقد أنني لو لم أحضر إلى باريس لمات هذا الرجل الذي أمامك جوعاً وإعياءً وسط لوحاته.. كما لم يعد الرسامون يموتون اليوم!

وبدل أن تسأليني سألت زياد بشيء من الذعر، وكأنك كنت تخافين أن أكون قد رسمت إحدى عشرة نسخة من صورتك:

- ماذا رسم؟

أجابك زياد بابتسامة وجّهها إليّ:

- لقد رسم قسنطينة.. لا شيء سوى قسنطينة.. وكثيراً من الجسور..

صحتِ وأنت تسحبين كرسياً وتجلسين:

- لا.. أرجوكم لا تحدثوني عن قسنطينة مرة أخرى.. إنني عائدة تواً منها. إنها مدينة لا تطاق.. إنها الوصفة المثالية لكي ينتحر المرء أو يصبح مجنوناً!

ثم وجّهتِ كلامك إليّ:

- متى تشفى أنت من هذه المدينة؟

كان يمكن أن أقول لك لو كنا على انفراد "يوم أشفى منك!"

ولكن زياد أجاب ربما نيابة عني:

- نحن لا نشفى من ذاكرتنا يا آنستي.. ولهذا نحن نرسم.. ولهذا نحن نكتب.. ولهذا يموت بعضنا أيضاً..

رائع زياد.. كان مدهشاً وشاعراً في كل شيء.

كان يقول شعراً دون جهد. ويحب ويكره دون جهد. ويغري دون جهد.

كنت أنظر إليه وهو يسألك "أنتِ جزائرية إذن؟". ولا أستمع لما تقولينه له.

بدا لي في تلك اللحظة أن الحديث كان يدور بينكما فقط، وأنني لم أقل كلمة واحدة منذ قدومك.

كنت طرفاً فقط في تلك الجلسة الغريبة للقدر.

كنت أنظر إليك.. وأبحث في تفاصيلك عن شرح لما حلّ بي.

سألتك يوماً: "ما هو أجمل شيء فيك؟"

ابتسمت بإيماء غامض ولم تجيبي.

لم تكوني الأجمل، كنت الأشهى. فهل هناك من تفسيرٍ للرغبة!

ربما كان زياد يشبهك أيضاً..

اكتشفت ذلك مع مرور الأيام، وأنا أنظر إليكما وأنتما تتحدثان أمامي كلّ مرة.

كان أيضاً شي من السحر الغامض فيه.. من الجاذبية التي لا علاقة لها بالجمال. وكانت فكرة تشابهكما أو تطابقكما هذه تزعجني.. بل وأزعجتني ربما من اللحظة الأولى. عندما نبّهتني إلى تدهور صحتي وشحوب لوني، بينما كنت أراكما أمامي في صحّة وتألق مثير للغيرة.

ترى بدأت الغيرة تتسلل إلي اللحظة.. وأنا أكتشف أنني لست سوى شبح بينكما، ووجه حشر خطأ في لوحتكما الثنائية؟

لم تَتَنَبّهي يومها أنني وصلت إلى تلك الحالة بسببك. ولذا لم تعتذري لي، بل وأكثر من ذلك كنت تتحدثين قليلاً إليّ.. وكثيراً إليه.

قلتِ له:

- لقد أحببت ديوانك الأخير "مشاريع للحب القادم"؛ لقد ساعدني شيئاً ما على تحمل هذه العطلة البائسة. هنالك مقاطع منه حفظتها لفرط ما أعدت قراءتها..

ورحت تقرأين أمام دهشة زياد:

"تربّص بي الحزن لا تتركيني لحزن المساء
سأرحل سيدتي
أشرعي اليوم بابك قبل البكاء
فهذي المنافي تغرّر بي للبقاء
وهذي المطارات عاهرة في انتظار
تراودني للرحيل الأخير..."

كنت أستمع إليك تقرئين شعراً لأول مرة.

كان في صوتك موسيقى لآلة لم تخلق بعد أتعرف عليها لأول مرة في حزن نبرتك التي خلقت في البدء للفرح.. فإذا بها عزف لشيء آخر.

وكان زياد يستمع إليك بشيء من الذهول، وكأنه فجأة يجلس خارج الزمن وخارج الذاكرة.

كأنه أخيراً قرر أن يجلس على شيء آخر غير حقائبه ليستمع إليك.
وعندما سكتِّ.. راح يقرأ بقية تلك القصيدة وكأنه يقرأ لك طالعه لا غير:

"ومالي سواكِ وطن
وتذكرة للتراب.. رصاصة عشق بلون كفن
ولا شيء غيرك عندي
مشاريع حبّ.. لعمر قصير!"

في تلك اللحظة.. شعرت أن شحنة من الحزن المكهرب وربما الحب المكهرب أيضاً قد سرت بيننا، واخترقتنا نحن الثلاثة.

كنت أحب زياد.. كنت مبهوراً به. كنت أشعر أنه يسرق مني كلمات الحزن، وكلمات الوطن، وكلمات الحب أيضاً..

كان زياد لساني، وكنت أنا يده كما كان يحلو له أن يقول.

وكنت أشعر في تلك اللحظة.. أنك أصبحت قلبنا.. معاً!
***


كان يجب أن أتوقع كل الذي حدث.

فهل كان يمكن أن أوقف انجرافكما بعد ذلك؟

كنت شبيهاً بذلك العالم الفيزيائي الذي يخترع وحشاً، ثم يصبح عاجزاً عن السيطرة عليه.

كنت أكتشف بحماقة أنني صنعت قصتكما بيدي. بل وكتبتها فصلاً فصلاً بغباء مثالي، وأنني عاجز عن التحكم في أبطالي.

كيف يمكن أن أضع أمامك رجلاً يصغرني باثنتي عشرة سنة، ويفوقني حضوراً وإغراءً، وأحاول أن أقيس نفسي به أمامك؟

كيف يمكن أن أفكّ صلة الكلمة التي كانت تجمعكما بتواطؤ، وأمنع كاتبة أن تحبّ شاعراً تحفظ أشعاره عن ظهر قلب؟

وكيف أقنعه هو الذي ربما لم يشفَ بعد من حبه الجزائري السابق، ألا يحبك أنت التي جئت لتوقظي الذاكرة، وتشرعي نوافذ النسيان؟

كيف حدث هذا.. وكيف أتيت بكما لأضعكما أمام قدركما.. الذي كان أيضاً قدري!

قال لي ذلك المساء:

- إنها رائعة هذه الفتاة.. لا أذكر أنني قرأت لها شيئاً، فربما بدأت الكتابة بعدما غادرت الجزائر حسب ما فهمت. ولكنني أعرف هذا الاسم.. لقد سبق أن قرأته في مكان ما.. إنه ليس غريباً عليّ.

قلت له وقتها:

- أنت لم تقرأ هذا الاسم وإنما سمعته فقط. إنه اسم لشارع في الجزائر يحمل اسم أبيها (الطاهر عبد المولى) الذي استشهد أثناء الثورة.

وضع زياد جريدته ونظر إليّ دون أن يقول شيئاً.

أحسسته ذهب بعيداً في تفكيره.

تراه بدأ أيضاً يكشف كل الهوامش المثيرة للقائكما في تلك الظروف.. وكل التفاصيل العجيبة التي لا يمكن أن يبقى محايداً أمامها؟

شعرت برغبة في الكلام عنك أكثر.

كنت على وشك أن أحدثه عن سي الطاهر. كدت أخبره أنك ابنة قائدي وصديقي. كدت أقصّ عليه حتى قصّتي العجيبة معك. أنت التي كان يمكن أن تكوني ابنتي، قبل أن تصبحي فجأة بعد ربع قرن حبيبتي!

كدت أحكي له قصة لوحتي الأولى (حنين) وتصادفها مع ميلادك. وقصة لوحاتي الأخيرة وعلاقتها بك.. وسبب تدهور صحتي وجنوني الأخير..

كدت أشرح له سر قسنطينة.

أصَمتُّ لأحتفظ بسرّك لي كما نحتفظ بسر كبير نتلذّذ بحمله وحدنا؟ أكان لحبك نكهة العمل السري ومتعته القاتلة؟.

أنم تراني كنت أخجل أن أعترف له دون أن أدري أنك حبيبتي، هو الذي لم أخجل منه يوماً والذي تقاسمت معه كل شيء؟

ألأنك حبّ لم يُخلق ليُقتسم، قررت منذ البدء أن تكوني لأحدنا.. فقط؟

أعن صداقة أو حماقة، كنت أريد أن أمنحه فرصة حبك الذي قد يكون حبّه الأخير، وأياماً من السعادة المسروقة من الموت المحتمل الذي كان يتربص به في كل حين.. وفي كل مدينة؟

ماذا جاء زياد يفعل في باريس؟ من الواضح أنه لم يأت في زيارة سياحية. ربما جاء ليقوم ببعض الاتصالات السرية، يلتقي ببعض الجهات.. يتلقى أو يعطي تعليمات لا أدري..

ولكنه كان قلقاً شيئاً ما. كان يتحاشى أخذ مواعيده على الهاتف، وكان لا يغادر البيت بمفرده إلا نادراً.

ولم أطرح عليه يوماً أي سؤال حول سبب زيارته لباريس. كان هناك شيء من بقايا فترة كفاحية في حياتي، تجعلني أحترم أسرار الآخرين عندما يتعلق ذلك بقضايا نضالية.

كنت أحترم سره، وكان يحترم صمتي. ولهذا نقلنا سرنا وصمتنا حتى قصتنا المشتركة معك.

أكان بحدسه المفرط يتوقع شيئاً ما بيني وبينك؟
أم تراه أمام تظاهري باللامبالاة، لم يتوقع وجود حبّ ملتهب كهذا في أحشائي.

وكيف يمكن أن يتوقع ذلك، وأنا أنسحب تدريجياً على رؤوس الأصابع، لأترك له المجال تدريجياً لمزيد من التوسّع؟
كنت أدعه يجيب على الهاتف نيابة عني. يتحدث إليك ويدعوك إلى البيت نيابة عني.
وكنت تأتين، وأحاول ألا أسأل نفسي لمن جئت.. ولمن تراك تجمّلتِ؟

ربما كان أكثر الأيام وجعاً يوم زرت البيت بعد ذلك لأول مرة.

كان لا بد أن ينبهك زياد للوحاتي لتنتبهي إليها. رحت تنتقلين من غرفة إلى أخرى وكأنك تعبرين غرف بيتك. لم يستوقفك ذلك الممر، ولا ذكرى قبلة قلَبت حياتي رأساً على عقب.

أكانت تلك اللحظة هي الأكثر ألماً، أم عندما فتحت (خطأ؟) باباً، فقلت لك موضّحاً "هذه غرفة زياد". فوقفت أمام ذلك الباب نصف المفتوح، لحظات بدت لي أطول مما قضيته من وقت أمام كل لوحاتي مجتمعة.

قلت وأنت تعودين إلى الصالون وتجلسين على تلك الأريكة نفسها:

- لا أفهم أن تكون رسمت كل هذه الجسور.. جنون هذا.. كان يكفي لوحة أو اثنتان..

أعن قناعة أم عن لياقة تطوع زياد ليجيبك نيابة عني، بعدما لاحظ وقع كلماتك عليّ، ولاحظ تلك الخيبة التي أفقدتني صوتي:

- أنت لم تتأملي هذه اللوحات.. لقد حكمت عليها من النظرة الأولى.. وفي الرسم، اللوحات لا تتطابق وإن تشابهت. هنالك أرقام سرية تفتح لغز كل لوحة.. شيء شبيه بـ (الكود) لا بد من البحث عنه للوصول إلى ذلك الإشعار بشيء ما يريد أن يوصله إلينا صاحبها..

لو مررت بنفس هذه السرعة أمام لوحة (لاعبي الورق) الشهيرة، لما لاحظت سوى لاعبين جالسين أمام طاولة، ولما انتبهت إلى كونهما يمسكان بأوراق بيضاء يخفيانها على بعض. إن ما أراد أن ينقله لنا "سيزان" ليس مشهداً للعبة الورق بل مشهد من التزوير المتّفق عليه.. وربما المتوارث مادام أحد اللاعبين أكبر من الثاني سناً.

وقبل أن يواصل زياد كلامه قاطعته قائلة:

- من أين تعرف كل هذا.. هل أنت خبير أيضاً في الرسم.. أم أن عدوى خالد انتقلت إليك؟

ضحك زياد واقترب منك بعض الشيء وقال:

- ليس هذا ميدان خبرتي على الإطلاق.. إنه ترف ليس في متناول رجل مثلي.. بل إن جهلي في الفن سبفاجئك. أنا لا أعرف غير قلة قليلة من الرسامين اكتشفت أعمالهم عن طريق المصادفة.. وفي الكتب المختصة غالباً.. ولكنني أحب بعض المدارس الحديثة التي تطرح أسئلة من خلال أعمالها..

الفن للفن لا يقنعني، والجوكندة المحترمة لا تهزّني. أحب الفن الذي يضعني في مواجهة وجودية مع نفسي، ولهذا أعجبت بلوحات خالد الأخيرة.. إنها أول مرة يدهشني فيها حقاً.

لقد توحّد مع هذا الجسر لوحة بعد أخرى في فرحٍ ثم في حزن متدرج حتى العتمة، وكأنه عاش يتوقيته يوماً أو عمراً كاملاً..

في اللوحة الأخيرة لا يظل بادياً من الجسر سوى شبحه البعيد تحت خيط من الضوء. كل شيء حوله يختفي تحت الباب فيبدو الجسر مضيئاً، علامة استفهام معلّقة إلى السماء. لا ركائز تشدّ أعمدته إلى أسفل، لا شيء يحدّه على يمينه ولا على يساره، وكأنه فقد فجأة وظيفته الأولى كجسر!

أترى بداية الصبح عندئذ أم بداية الليل؟ أتراه يحتضر أم يولد مع خيط الفجر؟ إنه السؤال الذي يبقى معلّقاً كالجسر لوحة بعد أخرى، مطارداً بلعبة الظلّ والضوء المستمر، بالموت والبعث المستمر، لأن أي شيء معلّق بين السماء والأرض هو شيء يحمل موته معه.

كنت أسمتع إلى زياد مدهوشاً، وربما اكتشفت شيئاً لم يخطر ببالي لحظة رسم كل هذه اللوحات.

أحقٌّ ما قاله؟

من المؤكد أن زياد كان يتحدث عن لوحاتي خيراً مني. مثل كل النقاد الذين يعطونك شروحاً مدهشة لأعمال فنية قمت بها أنت بكل بساطة، دون أية تساؤلات فلسفية، فيضحكونك إذا كنت فناناً صادقاً وبسيطاً لا تهمّك الرموز والنظريات المعقّدة في الفن. وقد يملأونك غروراً وجنوناً، إذا كنت مثل الكثيرين الذين يأخذون أنفسهم مأخذ الجد، ويبدأون عندئذٍ بالتنظير بمدرسة فنية جديدة!

كان في تحليل زياد حقيقة هامة أدهشتني ولم أنتبه لها من قبل.

لقد كنت أعتقد وأنا أرسم تلك الجسور أنني أرسمك، ولم أكن في الواقع أرسم سوى نفسي. كان الجسر تعبيراً عن وضعي المعلّق دائماً ومنذ الأزل. كنت أعكس عليه قلقي ومخاوفي ودواري دون أن أدري.

ولهذا ربما كان الجسر هو أول ما رسمت يوم فقدت ذراعي.

فهل تعني كل هذه الجسور، أن لا شيء تغيّر في حياتي منذ ذلك الحين؟

ربما كان هذا هو الأصح.. ولكن ليس هذا كل شيء. وقد كان يمكن لزياد أن يفلسف أيضاً رمز الجسر بأكثر من طريقة.. ولكن من المؤكد أنه لن يذهب أبعد من الرموز المعروفة، لأن رموزنا تأخذ بعدها من حياتنا فقط، وزياد في النهاية لم يكن يعرف كلّ ثنايا ذاكرتي.

ولم يكن زار تلك المدينة التي تعرف وحدها سرّ الجسور!

تذكّرت حين ذاك رساماً يابانيا معاصراً، قرأت عنه أنه قضى عدة سنوات وهو لا يرسم سوى الأعشاب. وعندما سُئل مرة لماذا الأعشاب دائماً.. قال: "يوم رسمت العشب فهمت الحقل.. ويوم فهمت الحقل أدركت سر العالم..".

وكان على حق. لكلٍ مفتاحه الذي يفتح به لغز العالم.. عالمه.

همنغواي فهم العالم يوم فهم البحر. وألبرتو مورافيا يوم فهم الرغبة، والحلاج يوم فهم الله، وهنري ميلر يوم فهم الجنس، وبودلير يوم فهم اللعنة والخطيئة.

وفان غوغ.. تراه فهم حقارة العالم وساديّته، عندما كان يجلس محموماً معصوب الرأس أمام تلك النافذة التي لم يكن يرى منها.. غير حقول عبّاد الشمس الشاسعة فلا يملك أمام إرهاقه إلا أن يرسم أكثر من لوحة للمنظر نفسه؟

لأن يده المحمومة لم تكن تقدر على رسم أكثر من تلك الزهور البسيطة الساذجة.

ولكنه.. كان يواصل الرسم برغم ذلك، لا ليعيش من لوحاته وإنما لينتقم لها ولو بعد قرن.
ألم يقل لأخيه تلك النبوءة التي حطّمت بعدها كلّ الأرقام القياسية في ثمن لوحة (عباد الشمس): "سيأتي يوم يفوق فيه ثمن لوحاتي.. ثمن حياتي".
تساءلت وأنا أصل إلى هذه الفكرة: هل الرسامون أنبياء أيضاً؟.
ثم رحت أربط هذه الفكرة بتعليق زياد "كل شيء معلّق يحمل موته معه.."

وإذا بي أسأل نفسي، أيّة نبوءة تحمل كلّ اللوحات التي رسمتها في درجة متقدمة من اللاوعي والجنون؟ أمَوْت أم ميلاد تلك المدينة؟ أصمود جسورها المعلقة منذ قرون في وجه أكثر من نشرة جوية وأكثر من ريح مضادّة؟ أم سقوطها جميعاً في دمار هائل مفاجئ، في تلك اللحظة التي لا يفصل فيها بين الليل والنهار سوى خيط باهت للغفلة.. غفلة التاريخ!


كنت تحت تأثير تلك الرؤية المذهلة، عندما جاء صوتك لينتزعني من هواجسي.

قلتِ وأنت توجّهين حديثك إليّ:

- أتدري خالد.. إن من حسن حظك أنك لم تزر قسنطينة منذ عدة سنوات.. وإلا لما رسمت من وحيها أشياء جميلة كهذه. يوم تريد أن تشفى منها عليك أن تزورها فقط.. ستكفّ عن الحلم!

طبعاً، لم أكن أدري آنذاك، أنك ذات يوم ستتكلّفين شخصياً بقتل ذلك الحلم، وتوصليني في ما بعد حتى أعتاب قسنطينة مكرهاً.

تدخّل زياد ليقول كلاماً جاء هذه المرة أيضاً سابقاً لوقته.. كالنبوءة.

قال بشيء من العتاب المهذّب:

- لماذا تصرين على قتل حلم هذا الرجل؟. هنالك أحلام نموت على يدها، دعيه سعيداً ولو بوهمه..

لم تعلّقي على كلامه، وكأن أحلامي لم تعد تهمك بالدرجة الأولى. سألته فقط:

- وأنت.. ما هو حلمك؟

قال:

- ربما مدينة ما أيضاً..

- هل اسمها الخليل؟

قال مبتسماً:

- لا.. نحن لا نحمل دائماً أسماء أحلامنا.. ولا ننتسب لها
اسمي الخليل ومدينتي اسمها غزة.

- ومنذ متى لم تزرها؟

- منذ حرب حزيران.. أي منذ خمس عشرة سنة تماماً..

ثم أضاف:

- يضحكني الذي يحدث لخالد اليوم، كان يقنعني في الماضي يوم كنّا في الجزائر بالزواج والعيش هناك نهائياً. لم يكن يفهم أن تطاردني تلك المدينة إلى درجة إخراجي من كل المدن. وها هو الآن يصل إلى كلامي من تلقاء نفسه، ويصبح بدوره مسكوناً بمدينة، مطارداً بها.

العجيب أنه لم يحدّثني عنها أي مرة.. وكأنه لم يكن يوليها اهتماماً من قبل. هنالك أشياء شبيهة بالسعادة لا ننتبه لوجودها إلا بعدما نفتقدها!

ربما كان ذلك ما حدث لي.. فقد كنت أعي تدريجياً أنني كنت سعيداً معك قبل تلك العطلة الصيفية.. وقبل مجيء زياد.. وقبل أن يتحول حبنا من عشق ثنائي عنيف إلى حب مثلث الأطراف كل زواياه متساوية، ومن لعبة شطرنج يحكمها لاعبان متقابلان، ويملأ الحب فيها كل المربعات السوداء والبيضاء، بقانون المد والجزر العشقي، إلى لعبة طاولة، نجلس حولها نحن الثلاثة، بأوراقنا المقلوبة، وأحزاننا المقلوبة، بنبضات قلبنا المشتركة، بذاكرتنا المشتركة، نتربّص ببعضنا ونخلق قوانين جديدة للحب.. نزوّر الأوراق التي نملك النسخ نفسها منها، نحتال على منطق الأشياء لا ليربح أحدنا الجولة، وإنما لكي لا يكون بيننا من خاسر، وحتى تكون نهايتنا أقلّ وجعاً من البداية.

كان واضحاً أن زياد كان يشعر أنني أحبك بطريقة أو بأخرى. ولكنه لم يكن يعي جذور ذلك الحب ومداه. ولذا كان ينساق إلى حبك دون تفكير ودون شعور بالذنب.

لم يكن لأحدنا وعي كامل لينتبه إلى أن العشق اسم ثنائي لا مكان فيه لطرف ثالث. ولذا عندما حوّلناه إلى مثلث، ابتلعنا كما يبتلع مثلث "برمودا" كل البواخر التي تعبره خطأ؟

كيف وصلنا إلى هنا.

أيّ ريح حملتنا إلى هذه الديار الغريبة عن طقوسنا؟ أيّ قدر بعثرنا ثم أعاد جمع أقدارنا المتناقضة المبعثرة، وأعمارنا وتواريخنا المتفاوتة، ومعاركنا وأحلامنا المتباعدة، وأوقفنا هنا، أطرافاً في معركة نخوضها مع بعضنا ضد بعضنا دون وعي؟

بعد أشهر قرأت بين أوراق زياد خاطرة، أدهشتني بتطابقها مع أحاسيسي هذه، كتب فيها:

"عشقنا جولة أخرى خسرناها في زمن المعارك الفاشلة، فأيّ الهزائم أكثر إيلاماً إذن؟
مقدراً كان كلّ الذي حصل.
شعبين كنا لأرض واحدة.
ونبيين لمدينة واحدة.
وها نحن قلبان لامرأة واحدة.
كل شيء كان معدّاً للألم. (هل يسعنا العالم معاً؟).
ها نحن نتقاسم كبرياءنا رغيفاً عربياً مستديراً كجرحنا. رصاصة مستديرة الرأس.. أطلقوها على مربع أحمر، يتدرب فيه القدر على إطلاق الرصاص على دوائر سوداء تصغر تدريجياً كالدوّار.. حتى تصل مركز الموت..
حيث الرصاصة لا تخطئ.
حيث الرصاصة لا ترحم.
وحيث سيكون قلب أحدنا.."

كان زياد في تلك الأمسيات الشتائية، يسهر أحياناً في غرفته ليكتب. وكنت أرى في ذلك علامة لا تخطئ..

لا بد أن يكون عاشقاً ليعود إلى الكتابة بهذه الشراهة، هو الذي لم يكتب شيئاً منذ عدة سنوات.

كنت أبتسم أحياناً، وصوت موسيقى خافتة ينبعث من غرفته حتى ساعة متأخرة من الليل.

كأن زياد كان يريد أن يملأ رئتيه بالحياة، أو كأنه لم يكن يثق بها تماماً. ويخاف إن هو نام أن تسرق منه شياً.

كان يستمع دائماً إلى الأشرطة نفسها التي لا أدري من أين أحضرها، والتي لم أكن مولعاً بها أنا على وجه التحديد، كالموسيقى الكلاسيكية.. وشريط لفيفالدي وآخر لتيودوراكيس.

وكنت أقول لنفسي وأنا أقضي أحياناً سهرة كاملة بمفردي أمام التلفزيون:

" إنه يعيش جنونه أيضاً. هنالك جنون الصيف.. وهنالك جنون الشتاء. انتهى جنوني وبدأ جنونه!".

ولكن.. كيف يمكن لي أن أعرف درجات جنونه هذا؟ من أين آتي بمقياس للزلزال، أعرف منه ما يحدث في أعماقه بالتحديد؟

كيف يمكن ذلك، ونوباته كتابات سرية لا يدري بها غير الورق. بينما يعلّق جنوني على الجدران إحدى عشرة لوحة تشهد ضدي.. وتفضحني.

فهل انتهى جنوني حقاً؟

لا.. أصبح فقط جنوناً داخلياً لا علاقة له بالإبداع. أصبح أحاسيس مرضيّة أبذّرها هباءً في الغيرة واليأس.

كان إذا غيّر زياد بدلته، شعرت أنه يتوقع قدومك، وإذا جلس ليكتب فهو يكتب لك، وإذا ترك البيت فهو على موعد معك..

نسيت في زحمة غيرتي، حتى الأسباب التي جاء من أجلها زياد إلى باريس، ولقاءاته.. وهواجسه الأخرى.

.. ثم جاء ذلك السفر الذي كدت أنساه.

ربما كانت تلك أكثر تجاربي ألماً على الإطلاق. فقد كان عليّ أن أترككما عشرة أيام كاملة معاً في مدينة واحدة. وربما غالباً في بيتٍ واحد هو بيتي.. نظراً لصعوبة لقائكما خارج البيت.

سافرت يومها وأنا أحاول أن أقنع نفسي أنها فرصة لنا جميعاً، لنضع شيئاً من الترتيب في علاقتنا، وأنه كان لابد لأحدنا أن يتغيّب لتحسم هذه الأمور الغامضة بيننا نهائياً.

طبعاً، لم أكن مقتنعاً في أعماقي بهذا المنطق، أو على الأقل بهذا القدر العنيد الذي جعل القرعة تقع عليّ.

فمن الواضح أن القدر كان منحازاً لكما. وكان ذلك يؤلمني كثيراً. ولكن ما الذي كان أشدّ إيلاماً لي:

أن أدري أنك مع رجل آخر، أم أن يكون ذلك الرجل هو زياد لا سواه، أم أن تتم خيانتي في بيتي في غرف لم أتمتع بك فيها؟

إلى أيّ حدّ ستذهبين معه.. وإلى أي حدّ سيذهب هو معك؟ وهل ستوقفه ذاكرتنا المشتركة.. وكل ما جمعنا يوماً من قيم؟

قلت لكِ الكثير عن زياد.. ولم أقل لك الأهم.

كان زياد يوماً خليّتي السرية، أوراق انتمائي السرية.

كان هزائمي وانتصاراتي، حججي وقناعاتي، كان عمراً سرّياً لعمرٍ آخر. فهل سيخونني زياد؟

كنت قد بدأت أعتب عليه، وربما أحقد عليه مسبقاً.

نسيت في جنون غيرتي، أنني لم أفعل شيئاً غير ذلك معك، أنا الذي تنكّرت أيضاً لسي الطاهر، لرجلٍ كان يوماً قائدي، وكان يوماً صديقي.. لرجل أودعك عندي وصيّة ذات يوم ومات شهيداً.

من منا الأكثر خيانة إذن؟

هو الذي قد يضع أحلامه ورغباته حيّز التنفيذ.. أم أنا الذي لم أنفّذها لأنني لم أجد فرصة لذلك؟

أنا الذي أنام وأصحو معك من شهور، وأغتصبك حتّى في غفوتي.. أم هو الذي ستكونين له بإرادتك؟


هنالك مدن كالنساء، تهزمك أسماؤها مسبقاً. تغريك وتربكك، تملأك وتفرغك، وتجرّدك ذاكرتها من كل مشاريعك، ليصبح الحب كل برنامجك.

هنالك مدن.. لم تخلق لتزورها بمفردك. لتتجول وتنام وتقوم فيها.. وتتناول فطور الصباح وحيداً.

هنالك مدن جميلة كذكرى، قريبة كدمعة، موجعة كحسرة..

هنالك مدن.. كم تشبهك!

فهل يمكن أن أنساك في مدينة اسمها.. غرناطة؟

كان حبّك يأتي مع المنازل البيضاء الواطئة، بسقوفها القرميدية الحمراء.. مع عرائش العنب.. مع أشجار الياسمين الثقيلة.. مع الجداول التي تعبر غرناطة.. مع المياه.. مع الشمس.. مع ذاكرة العرب.

كان حبك يأتي مع العطور والأصوات والوجوه، مع سمرة الأندلسيات وشعرهن الحالك.

مع فساتين الفرح.. مع قيثارة محمومة كجسدك.. مع قصائد لوركا الذي تحبينه.. مع حزن أبي فراس الحمداني الذي أحبه.

كنت أشعر أنك جزء من تلك المدينة أيضاً.. فهل كل المدن العربية أنت.. وكل ذاكرة عربية أنت؟

مر الزمان وأنت مازلت كمياه غرناطة، رقراقة الحنين.. تحملين طعماً مميزاً لا علاقة له بالمياه القادمة من الأنابيب والحنفيات.

مر الزمن، وصوتك مازال يأتي كصدى نوافير المياه وقت السّحر، في ذاكرة القصور العربية المهجورة، عندما يفاجئ المساء غرناطة، وتفاجئ غرناطة نفسها عاشقة لملك عربي غادرها لتوه..

كان اسمه "أبا عبد الله". وكان آخر عاشق عربي قبّلها!

تراني كنت ذلك الملك الذي لم يعرف كيف يحافظ على عرشه؟
تراني أضعتك بحماقة أبي عبد الله، وسأبكيك يوماً مثله؟
كانت أمه قد قالت له يوماً وغرناظة تسقط في غفلة منه: "ابك مثل النساء مُلكاً مُضاعاً، لم تحافظ عليه مثل الرجال.."

فهل حقاً لم أحافظ عليك؟. وعلى من أُعلن الحرب.. أسألك؟

على مَنْ.. وأنتما ذاكرتي وأحبّتي.
على مَنْ.. وأنت مدينتي وقلعتي.

فلِمَ الخجل؟

هل هناك ملك عربي واحد.. حاكم عربي واحد، لم يبكِ منذ أبي عبد الله مدينة ما؟

فاسقطي قسنطينة.. هذا زمن السقوط السريع!

هل سقطت حقاً يومها.. هذا ما لن أعرفه أبداً.

ولكن أعرف فقط تاريخ سقوطك الأخير، سقوطك النهائي الذي كنت شاهداً عليه بعد ذلك.

فأيّ جنون كان أن تزيد المسافات من حبّك، وأن تأخذي ملامح تلك المدينة أيضاً. وإذا بي كمجنون أجلس كلّ ليلة لأكتب لك رسائل كانت تولد من دهشتي وشوقي وغيرتي عليك. كنت أقصّ لك فيها تفاصيل يومي وانطباعاتي في مدينة تشبهك حد الدهشة.

كتبت لك مرة:

"أريد أن أحبك هنا. في بيتٍ كجسدك، مرسوم على طراز أندلسي.
أريد أن أهرب بك من المدن المعلّبة، وأُسكن حبّك بيتاً يشبهك في تعاريج أنوثتك العربية.

بيتاً تختفي وراء أقواسه ونقوشه واستداراته ذاكرتي الأولى. تظلّل حديقة شجرة ليمون كبيرة، كتلك التي يزرعها العرب في حدائق بيوتهم بالأندلس.

أريد أن أجلس إلى جوارك، كما أجلس هنا على حافة بركة ماء تسبح فيها سمكات حمراء، وأتأملك مدهوشاً.

أستنشق جسدك، كما أستنشق رائحة الليمون البلدي الأخضر قبل أن ينضج.

أيتها الفاكهة المحرّمة.. أمام كلّ شجرة أمرّ بها، أشتهيك.."

كم من الرسائل كتبت لك.. هل يمكن لكاتبة أن تقاوم الكلمات؟ كنت أريد أن أطوقك بالحروف، أن أستعيدك بها، أن أدخل معكما حلقة الكلمات المغلقة في وجهي بتهمة الرسم فقط، فرحت أخترع من أجلك رسائل لم تكتب قبلك لامرأة. رسائل انفجرت في ذهني فجأة بعد خمسين سنة من الصمت.

تراني بدأت يومها أكتب كتابي هذا دون أن أدري، بعد أن انتقل عشقي لك إلى هذه اللغة التي كنت أكتب بها رسائل لأول مرة. قبلك كتبت لنساء عبرن حياتي أيام الشباب والمراهقة.

لم أكن أجهد نفسي آنذاك في البحث عن الكلمات.
كانت اللغة الفرنسية تستدرجني تلقائياً بحريتها للقول دون عقد.. ولا خجل.

معك رحت أكتشف العربية من جديد. أتعلم التحايل على هيبتها، أستسلم لإغرائها السري، لإيحاءاتها.

رحت أنحاز للحروف التي تشبهك.. لتاء الأنوثة.. لحاء الحرقة.. لهاء النشوة.. لألف الكبرياء.. للنقاط المبعثرة على جسدها خال أسمر..

هل اللغة أنثى أيضاً؟ امرأة ننحاز إليها دون غيرها، نتعلم البكاء والضحك.. والحب على طريقتها. وعندما تهجرنا نشعر بالبرد وباليتم دونها؟

تراك قرأت تلك الرسائل؟. هل شعرت بعقدة يتمي وخوفي من مواسم الصقيع؟

أأدهشتك أم تراها جاءت في غير وقتها؟

كان لا بد أن أكتبها لك قبل أن يتسلل زياد إليك من كل المسام، ويصبح لغتك.

فهل تفيد رسائل الحب عندما تأتي متأخرة عن الحب؟

ألم يحب سلفادور دالي وبول إيلوار المرأة نفسها؟

وعبثاً راح بول إيلوار يكتب لها أجمل الرسائل.. وأروع الأشعار.. ليستعيدها من دالي الذي خطفها منه. ولكنها فضّلت جنون دالي المجهول آنذاك.. على قوافي بول إيلوار. وظلّت حتى موتها منحازة لريشة دالي فقط الذي تزوجها أكثر من مرة بأكثر من طقس، ولم يرسم امرأة غيرها طوال حياته.

الواقع أن الحب لا يكرر نفسه كل مرة، وأن الرسامين لا يهزمون الشعراء دائماً.. حتى عندما يحاولون التنكّر في ثياب الكلمات.

عندما عدت بعد ذلك إلى باريس، كان في الحلق غصّة لازمتني طوال تلك الأيام، وأفسدت عليّ متعة نجاح ذلك المعرض. واللقاءات الجميلة أو المفيدة التي تمّت لي أثناءه.

كان هناك شيء داخلي ينزف دون توقّف. عاطفة جديدة للغيرة والحقد الغامض الذي لا يفارقني ويذكّرني كلّ لحظة أن شيئاً ما يحدث هناك.
استقبلني زياد بشوق. (أكان حقاً سعيداً بعودتي؟). أمدّني بالبريد الذي وصل أثناء غيابي وبورقة سجّل عليها أسماء الذين طلبوني هاتفياً خلال تلك الأيام.

أمسكتها دون أن ألقي عليها نظرة. كنت أدري أنني لن أجد اسمك فيها.

ثم راح يسألني عن المعرض.. عن سفرتي وأخباري العامة، ويحدثني عن آخر التطورات السياسية بشيء من القلق، الذي فسّرته بارتباكه لحظتها أمامي لسبب أو لآخر.

كنت أستمع إليه وأنا أتفقد بحواسي ذلك البيت كما في خرافة الغول الذي كان كلما عاد إلى بيته، راح يتشمّم الأجواء بحثاً عن إنسان قد يكون تسلّل إلى مغارته أثناء غيابه..

كنت أشعر أنك مررت بهذا البيت. إحساس غامض كان يؤكد لي ذلك، دون أن أجد في الواقع حجة تثبت لي شكوكي.

ولكن هل تهم الحجّّة؟.. هل يعقل أن تمر عشرة أيام دون أن تلتقيا.. وأين يمكن أن تلتقيا في مكان غير هذا؟ وإذا التقيتما هل ستكتفيان بالحديث؟

كنتِ منجماً للكبريت.. وكان زياد عاشقاً مجوسياً يعبد اللّهب!

فهل كان يمكن أن يصمد طويلاً في وجه نيرانك.. أنت المرأة التي يحلم الرجال أن يحترقوا بها ولو وهماً؟

رحت أبحث في ملامح زياد عن فرحٍ ما، عن سعادةٍ ما أجد فيها الحجة القاطعة على أنك كنت له.
ولكن لم يبدُ على وجهه أي شعور خاص، غير القلق.

فجأة حدثني عنك قال:

- لقد طلبت منها أن تأتي غداً لنتناول معاً غداءنا الأخير..

صحت بشيء من الدهشة:

- لماذا الأخير؟

قال:

- لأنني سأسافر الأحد..

- ولماذا الأحد؟

قلتها وأنا أشعر بشيء من الحزن والفرح معاً.

أجاب زياد:

- لأنني يجب أن أعود.. كنت أنتظر فقط عودتك لأسافر. لم يكن مقرراً أن أبقى هنا أكثر من أسبوعين. لقد قضيت شهراً كاملاً ولا بدّ أن أعود..

ثم أضاف بشيء من السخرية:

- قبل أن أتعود على الحياة الباريسية.

تراك أنتِ الحياة الباريسية التي كان يخاف أن يتعود عليها؟ تراه كان يهرب مرة أخرى من حبٍ آخر أم أن مهمته قد انتهت أخيراً فلم يعد أمامه غير الرحيل؟

مر يوم السبت وسط مشاغل عودتي، وانشغال زياد بترتيب تفاصيل سفره.

حاولت أن أتحاشى الجلوس إليه ذلك المساء. ولكن كان يوم الأحد يتربص بنا ويضعنا أخيراً وجهاً لوجه نحن الثلاثة في ذلك الغداء الحاسم.

يومها قابلتني بحرارة لم أتوقعها. فسّرتها على طريقتي بأنها شعور بالذنب، (أو ربما بالامتنان). ألم أقدم لك حباً على طبق من شعر على طاولة هي.. بيتي؟!

ثم شكرتني على رسائلي، وأبديت إعجابك بأسلوبي.. وكأنك أستاذة قدم لها تلميذ نصّاً إنشائياً.

أزعجني شكرك العلني، وشعرت أنك حدّثت زياد عنها وربما أريته إياها أيضاً.

كنت على وشك أن أقول شيئاً عندما واصلت:

- تمنيت لو كنت معك هناك.. هل غرناطة جميلة حقاً إلى هذا الحد؟ وهل زرت حقاً بيت غارسيا لوركا في (خوانتا فاكيروس).. أليس هذا اسم ضيعته كما قلت؟ حدّثني عنه..

وجدت في طريقتك في بدء الحديث معي من الهوامش، شيئاً مثيراً للدهشة، وربما للتفكير أيضاً.

أهذا كل ما وجدت قوله بعد كل الزوابع التي مرّت بنا، وبعد عشرة أيام من الجحيم الذي عشته وحدي؟

لا أدري كيف خطر عندئذٍ في ذهني شهد لفيلم شاهدته يوماً عن حياة لوركا..

قلت لك:

- أتدرين كيف مات لوركا؟

قلتِ:

-بالإعدام..

قلت:

- لا.. وضعوه أمام سهل شاسع وقالوا له امشِ.. وكان يمشي عندما أطلقوا خلفه الرصاص، فسقط ميتاً دون أن يفهم تماماً ما الذي حدث له.

إنه أحزن ما في موته. فلم يكن لوركا يخاف الموت، كان يتوقّعه، ويذهب إليه مشياً على الأقدام كما نذهب لموعدٍ مع صديق.. ولكن كان يكره فقط أن تأتيه الرصاصة من الظهر!

شعرت آنذاك أن زياد تلقي كلماتي كرصاصة في الصدر. رفع عينيه نحوي، أحسسته على وشك أن يقول شيئاً ولكنه صمت.

كنا نفهم بعضنا دون كثير من الكلام.

ندمت بعدها على إيلامي المتعمد له. فقد كان إيلامه يعزّ عليّ أكثر من ألمك. ولكن كان هذا أقل ما يمكن أن أقوله له بعد كل ما عشته من عذاب بسببه.

وربما كان أكثره أيضاً.

تحول غداؤنا فجأة إلى وجبة صمت مربك تتخلله أحيانا أحاديث مفتعلة، كنتِ تخترعينها أنتِ بفطرةٍ نسائية لترطيب الجو.. وربما للمراوغة. ولكن عبثاً.

كان هناك شيء من البلّور قد انكسر بيننا. ولم يعد هناك من أمل لترميمه.

سألتكِ بعدها:

- هل ستأتين معي لنرافق زياد إلى المطار؟

أجبتِ:

-لا.. لا يمكن أن أذهب إلى المطار.. قد ألتقي بعمي هناك، إذ أنه يحدث أن يمر بمكتب الخطوط الجوية الجزائرية. ثم إنني أكره المطارات.. وأكره مراسيم الوداع. الذين نحبهم لا نودعهم، لأننا في الحقيقة لا نفارقهم. لقد خلق الوداع للغرباء.. وليس للأحبة.

كانت تلك إحدى طلعاتك العجيبة المدهشة كقولك السابق مثلاً "نحن لا نكتب إهداءً سوى للغرباء وأما الذين نحبهم فهم جزء من الكتاب وليسوا في حاجة إلى توقيع في الصفحة الأولى.."

ولماذا الوداع؟

هل هناك من ضرورة لوداع آخر؟

كنت أراك طوال وجبة الغداء تلتهمينه بنظراتك ولا تأكلين شياً سواه.

كانت عيناك تودّعان جسده قطعة قطعة. تتوقّفان طويلاً عند كلّ شيء فيه، وكأنك تختزنين منه صوراً عدة.. لزمن لن يبقى لك فيه سوى الصور.

وكان هو يتحاشى نظراتك، ربما مراعاة لي، أو لأن كلماتي الموجعة أفقدته رغبة الحب.. ورغبة الأكل كذلك. وجعلته يحوّل نظراته الحزينة إلى أعماقه وإلى ما بعد السفر.

وكنت أنا لا أقل حزناً عنكما، ولكن حزني كان فريداً وفرديّاً كخيبتي. متشعّب الأسباب غامضاً كموقفي من قصّتكما العجيبة.
وربما زاده رفضك مرافقتي إلى المطار توتراً. فقد كنت أطمع في عودتك معي على انفراد لأخلو أخيراً بك. لأفهم منك دون كثير من الأسئلة، إلى أيّ مدى كنت قادرة على محو تلك الأيام من ذاكرتك، والعودة إليّ دون جروح أو خدوش..

كنت أدري أن قلبك قد أصبح منحازاً إليه. وربما جسدك أيضاً. ولكنني كنت أثق بمنطق الأيام. وأعتقد أنك في النهاية ستعودين إليّ، لأنه لن يكون هناك سواي.. ولأنني ذاكرتك الأولى.. وحنينك الأول لأبوة كنت أنا نسخة أخرى عنها.

فرحت أراهن على المنطق وأنتظرك.

رحل زياد..

ورحت أستعيد تدريجياً بيتي وعاداتي الأولى قبله.

كنت سعيداً ولكن بمرارة غامضة. فقد كنت تعوّدت على وجوده معي، وكنت أشعر بشيء من الوحدة المفاجئة وهو يتركني وحدي لموسم الشتاء؛ لتلك الأيام الرمادية، والسهرات الطويلة المدهشة.

رحل زياد.. وفرغ البيت منه فجأة كما امتلأ به.

لم يبق سوى تلك الحقيبة التي قد تشهد على مروره من هنا، والتي تركها أسفل الخزانة بعدما جمع فيها أوراقه وأشياءه، والتي رأيت في بقائها عندي مشروع عودة محتملة، قد تكونين أنت أحد أسبابها.

ولكن لابد أن أعترف أن سعادتي كانت تفوق حزني، وأنني كنت أشعر أنني أستعيدك وأنا أستعيد ذلك البيت الفارغ منه.

كنت أشعر أن هذا البيت سيمتلئ أخيراً بحضورك بطريقة أو بأخرى، وأنني سأخلو فيه بك وأنا أخلو لنفسي.

سأعيدك إليه تدريجياً. ألم تعترفي مراراً أنك تحبينه.. تحبين طريقة ترتيبه.. تحبين ضوءه.. منظر نهر السين الذي يطلّ عليه؟

أن ترى كنت تحبين فقط زياد، وحضوره الذي كان يؤثث كل شيء.. ويجعل الأشياء أحلى!

في البدء.. كنت أتوقع هاتفك. كنت أتمسك به، أستنجد به، ولكن صوتك كان ينسحب أيضاً تدريجياً أمام دهشتي.

كان هاتفك يأتي مرة كل أسبوع، ثم كلّ أسبوعين، ثم نادراً، قبل أن ينقطع نهائياً.

كان يأتي شحيحاً كقطرات الدواء. وكنت أشعر أحياناً أنك تطلبينني مجاملة فقط، أو عن ضجر، أو ربما بنية غير معلنة لمعرفة أخبار زياد.

وكنت أنا أثناء ذلك، أتساءل "تراه كان يكتب إليك مباشرة بعنوان البيت، ولهذا لم تكوني في حاجة إلى أن تسأليني مرة عن أخباره؟

أم أنه كعادته أخبرك مسبقاً أنه لن يكتب إليك، وأن عليك مثله أن تتعلمي النسيان. فرحت تطبّقين تلك العقوبة عليّ أيضاً!.

كان زياد يكره أنصاف الحلول في كل شيء.

كان متطرفاً كأي رجل يحمل بندقية. ولذا كان يكره أيضاً ما كان يسمّيه سابقاً "أنصاف الملذات" أو "أنصاف العقوبات"!

كان رجل الاختيارات الحاسمة. فإما أن يحب ويتخلى عندئذٍ عن كل شيء ليبقى مع من يحب، أو يرحل لأن الذي ينتظره هناك أهم. وعندها لن يكون من مبرر لتعذيب النفس بالأشواق والذكرى.

تساءلت طويلاً بعد ذلك، ماذا عساه اختار؟

تراه تصرّف هذه المرة أيضاً كما تصرف منذ سنوات في الجزائر مع تلك الفتاة التي كان على وشك الزواج منها..

أم أنه تغيّر هذه المرة، ربما بحكم العمر.. وربما فقط لأنك أنت، ولأن الذي حدث بينكما لم يكن قصة عادية تحدث بين شخصين عاديين.

كنت أحاول أحياناً استدراجك للحديث عنه، عساني أصل إلى نتيجة تساعدني على تحديد القواعد الجديدة للعبة.. والتأقلم معها.

وكنت تراوغينني كعادتك. كان من الواضح أنك تحبّين أن أحدثك عنه، ولكن دون أن تبوحي لي بشيء.

كنت تناقضين نفسك كل لحظة. تمزجين بين الجد والمزاح، وبين الحقيقة والكذب، في محاولة للهروب من شيء ما..

كان كلامك كذباً أبيض أستمع إليه بفرشاتي، وألوّن جمله بألوان أكثر تناسباً مع كل ما أعرفه عنك.

تعودت أن أكسو ما تقولينه لي بالبنفسجي، بالأزرق.. والرمادي، بالقلق الذي يخيم على كل ما تقولينه.

تعودت أن أجمع حصيلة ما قلته لي، وأصنع منها حواراً لرسوم متتالية على ورق، أضع عليها أنا التعليقات المناسبة لحوار آخر وكلام لم نقله.

لعلني وقتها بدأت أكتشف تدريجياً تلك العلاقة الغامضة التي بدأت تربطك في ذاكرتي بذلك اللون الأبيض.
لم يكن كلامك وحده كذباً أبيض.

كنت امرأة تملك قدرة خارقة على استحضار ذلك اللون في كل أشكاله وأضداده. أو لعلني وقتها أيضاً بدأت دون أن أدري وبحدس غامض أخرج هذا اللون نهائياً من ألوان لوحاتي، وأحاول الاستغناء عنه، في محاولة مجنونة لإلغائك.

كان لوناً متواطئاً معك. منذ ذلك اليوم الذي رأيتك فيه طفلة تحبو بينما أثوابها الطفولية البيضاء تجفّ فوق خشبات منصوبة فوق كانون. غمزة مسبقة للقدر الذي كان يُهيّأ لي معك على نارٍ باردة، أكثر من ثوب أبيض.

كان الأبيض لوناً مثلك يدخل في تركيب كلّ الألوان وكل الأشياء. فكم من الأشياء يجب أن أدمّر قبل أن أنتهي منه! وكم من اللوحات سألغي إن أنا قاطعته!

كنت أحاول بكل الأشكال (والألوان.. ) أن أنتهي منك. ولكني كنت في الحقيقة أزداد تورّطاً في حبك.

اعترفت لك مرة على الهاتف.. في لحظة يأس:

أتدرين.. حبك صحراء من الرمال المتحركة، لم أعد أدري أين أقف فيها..

أجبتني بسخريتكِ الموجعة:

- قف حيث أنت.. المهم ألا تتحرك. فكل محاولة للخلاص في هذه الحالات، ستجعل الرمال تسحبك أكثر نحو العمق. إنها النصيحة التي يوجهها أهل الصحراء لكل من يقع في بالوعة الرمال المتحركة.. كيف لا تعرف هذا؟!

يومها كان لا بد أن أحزن.. ولكنني ضحكت. ربما لأنني أحب سخريتك الذكية حتى عندما تكون موجعة، فنحن قلما نلتقي بامرأة تعذّبنا بذكاء.

وربما لأنك كنتِ تزفّين لي احتمال موت كنت أراه جميلاً بقدر ما هو حتمي..

تذكّرت مثلاً شعبياً رائعاً، لم أكن قد تنبّهت له من قبل" "الطير الحر ما ينحكمش، وإذا انحكم.. ما يتخبّطش!".

وكنت أشعر آنذاك أنني ذلك الطائر المكابر الذي ينتسب إلى سلالة الصقور والنسور التي لا يسهل اصطيادها، والتي عندما تُصطاد، تصبح شهامتها في أن تستسلم بكبرياء، دون أن تقاوم أو تتخبّط كما يفعل طائر صغير وقع في فخّ.

عندما أجبتك يومها بذلك المثل الشعبي، صحتِ دهشة:

- ما أجمله.. لم أكن أعرفه!

أجبتك وسط تنهيدة:

- لأنك لم تعرفي الرجال.. ليس هذا زمناً للصقور ولا للنسور.. إنه زمن للطيور المدجّنة التي تنتظر في الحدائق العمومية!


ست سنوات مرّت على ذلك الحديث. وها أنا أذكره اليوم مصادفة، وأستعيد نصيحتك الأخيرة:

"قف حيث أنت.. المهم ألا تتحرك!".

كيف صدّقت يومها أنك كنت تخافين عليّ من العواصف والزوابع.. والرمال المتحركة. أنت التي أوقفتني هنا في مهب الجرح عدة سنوات، ورحت تنفخين حولي العواصف وتحركين أمواج الرمال تحت قدميّ.. وتحرّضين القدر عليّ.

لم أتحرك أنا..

ظللت واقفاً بحماقة عند عتبات قلبك لسنوات عدة.

كنت اجهل أنك تبتلعينني بصمت، أنك تسحبين الأرض من تحت قدمي وأنني أنزلق نحو العمق.

كنت أجهل أن زوابعك ستعود كل مرة، وحتى بعد غيابك بسنوات لتغتالني.

واليوم.. وسط الأعاصير المتأخرة يأتي كتابك ليثير داخلي زوبعة من الأحاسيس المتطرّفة والمتناقضة معاً.

"منعطف النسيان" قلتِ..

من أين يأتي النسيان..أسألك؟



مازلت أذكر ذلك اليوم من فبراير، عندما جاء صوت سي الشريف على الهاتف، ليدعوني إلى العشاء في منزله.

فوجئت بدعوته، ولم أسأله حتى عن مناسبتها. فهمت منه فقط أنه دعا آخرين للعشاء، وأننا لن نكون بمفردنا.

أعترف أنني كنت سعيداً ومرتبكاً بفرحي.

خجلت من نفسي لأنني منذ لقائنا الأخير لم أطلبه سوى مرة واحدة بمناسبة العيد، برغم إلحاحه عليّ أن أزوره ولو مرة في المكتب، لنأخذ قهوة معاً.

فجأة، أخذت قراراً ربما كان أحمق.

قررت أن آخذ إحدى لوحاتي لأهديها إياه.

ألم يهدني اليوم تلك الفرحة التي لم أعد أتوقعها؟

سأثبت له دون كلام، أن لوحاتي لا تتداول إلا بعملة القلب وليس بالعملات المشبوهة.

بعد ذلك وجدت لهذه الفكرة حسنة أخرى.

سأكون حاضراً في ذلك البيت الذي تسكنينه ولو معلّقاً على جدار.

في اليوم التالي، حملت لوحتي وذهبت إلى ذلك العشاء.

كان القلب يركض بي، يسبقني في ذلك الحي الراقي بحثاً عن تلك البناية. حتى أنني لم أعد أذكر من اهتدى إلى بيتك أولاً: عيناي.. أم قلبي.

عندما دخلتها شعرت أن عطرك كان يتربص بي عند المدخل..وفي المصعد.. وأنك كنت هنا تقودين وجهتي بعطرك فقط.

استقبلني سي الشريف عند الباب. رحبّ بي بعناق حار، زادت حرارته رؤية تلك اللوحة الكبيرة التي كنت أحملها بصعوبة.

بدا لي في تلك اللحظة أنه لم يصدق تماماً أن تكون هدية له. تردد قبل أن يأخذها مني، لكنني استوقفته لأقول له: "هذه لوحة مني.. إنها هدية لك.."

رأيت فجأة على وجهه فرحاً وغبطة نادرة. وراح ينزع عنها الغلاف على عجل، بفضول من ربح شيئاً في اليانصيب.

ثم صاح وهو يرى منظر تلك القنطرة معلّقة وسط الضباب إلى السماء:

- هذي قنطرة الجبال!

وقبل أن أقول شيئاً عانقني وقال وهو يربت على كتفي:

- يعطيك الصحة.. تعيش آ حبيبي.. تعيش!

لم أتمالك نفسي من تقبيله بالحرارة نفسها، لأنه أهداني شيئاً ربما لم ينتبه لثمنه عندي.

رافقني سي الشريف إلى الصالون وهو يمسك ذراعي بيد، ويمسك لوحتي باليد الأخرى. واتجه بي نحو ذلك المجلس ليقدّمني إلى ضيوفه، كأنه يريد أن يشهد الجميع على امتنانه لي. أو ربما على علاقتنا وصداقتنا الوطيدة، التي كان شائعاً عني أنني لا أجود بها في هذا الزمن المبتذل.. إلا على القلّة.

لفظ أمامي عدة أسماء لعدة وجوه، صافحت أصحابها وأنا أتساءل من يكون معظمهم.

لم أكن أعرف منهم غير واحد أو اثنين، وأما البقية فكانوا ما أسمّيه النبتات الطفيلية.. أو "النبتات السيئة". كما يسمي الفرنسيون تلك النبتة التي تنمو من اللاشيء، في أي حوض أو أية تربة، وإذا بها تمد جذورها فجأة وتضاعف أوراقها وفروعها، حتى تطغى وحدها ذات يوم على كل التربة.

لا أدري لماذا كنت دائماً أملك الحاسة القوية التي تجعلني أتعرّف على هذا النوع من المخلوقات أينما كانوا. فهم على اختلاف أشكالهم وهيآتهم ومناصبهم يمتلكون مظهراً مشتركاً يفضحهم، بذلك الزيف والرياء المفرط وبمظاهر الغنى والوجاهة الحديثة التي لبسوها على عجل.. وبذلك القاموس المشترك في الحديث الذي يوهمك أنهم أهم مما تتوقع.

نظرة خاطفة واحدة، وبعض الجمل المتبادلة فقط، كانت كافية لأستنتج نوعية ذلك المجلس "الراقي" الذي يضم نخبة من وجهاء المهجر، الذين يحترفون الشعارات العلنية.. والصفقات السرية.

من الواضح أنني كنت في كوكب ليس كوكبي..

راح سي الشريف يطلع ضيوفه على تلك اللوحة بشيء من الفخر والمودة معاً..

والتفت إليّ ليقول لي:

_ أتدري خالد.. لقد حققت لي اليوم أمنية عزيزة عليّ. كنت للذكرى أريد أن يكون في بيتي شيء لك. لا تنس أنك صديق طفولتي وابن حيّي "كوشة الزيات".. أتذكر ذلك الحيّ؟

كنت أحب سي الشريف. كان فيه شي من هيبة قسنطينة وحضورها، شيء من الجزائر العريقة وذاكرتها، شيء من سي الطاهر، من صوته وطلّته..

وكان في أعماقه شيء نقيّ لم يلوّث بعد برغم كل شيء. ولكن حتى متى..

كنت أشعر أنه محاط بالذباب وبقذارة المرحلة. وكنت أخاف أن يتسلل إليه العفن حتى العمق ذات يوم.

أخاف عليه، وقد أخاف على ذلك الاسم الكبير الذي يحمله إرثاً من سي الطاهر من التدنيس.

ترى أكان شعوري ذلك حدساً، أم استنتاجاً منطقياً لذلك الواقع الموجع الذي كنت أراه محاطاً به؟

فهل سينجو سي الشريف من هذه العدوى؟ وماذا عساه أن يختار؟ في أية بحيرة سيسبح.. مع أي تيار وضد أي تيار.. ولا حياة للأسماك الصغيرة المعزولة في هذه المياه العكرة التي تحكمها أسماك القرش؟

كان الجواب أمامي ولم أنتبه في تلك السهرة، أنّ سي الشريف قد اختار بحيرته العكرة وانتهى الأمر.

قال جاري الأنيق خلف سيجاره الكوبي:

- لقد كنت دائماً معجباً برسومك.. وطلبت أن يتصلوا بك لتساهم في بعض مشاريعنا.. ولكنني لا أذكر أنني شاهدت لك أي لوحات عندنا.

لم أكن أدري آنذاك من هو محدثي.. ولا عن أية مشاريع كان يحدثني. ولكن كان يكفي أن يتحدث عن نفسه بصيغة الجمع، لأفهم أنه شخصية فوق العادة.

وكأن سي الشريف تنبّه إلى أنني أجهل هوية محدّثي فتدخل موضحاً:

- إن (سي..) مولع بالفن، وهو مشرف على مشاريع كبرى ستغيّر الوجه الثقافي للجزائر.

ثم أضاف وكأنه تنبّه إلى شيء:

- .. ولكنك لم تزر الجزائر منذ عدة سنوات.. صحيح أنك لم ترَ بعد تلك المركّبات الثقافية والتجارية الجديدة.. لا بد أن تتعرف عليها..

ولم أجبه..

كنت أراه يتدحرج أمامي من سلّم القيم، غباءً أو تواطؤاً لا أدري. فاحتفظت لنفسي بما سمعته عن تلك.. "المنشآت" وكل ما جاورها من معالم وطنية بُنيت حجراًً حجراً على العمولات والصفقات، وتناوب عليها السرّاق كباراً وصغاراً.. على مرأى من الشهداء الذين شاء لهم حظهم أن يكون مقامهم مقابلاً.. لتلك الخيانة.

ها هو إذن (سي...) يبدو طيباً و رجلاً شبه بسيط، لولا بدلته الأنيقة جداً.. وحديثه الذي لا يتوقف عن مشاريعه القريبة والبعيدة، التي تمر جميعها بباريس وبأسماء أجنبية مشبوهة، تبدو مخجلة في فم ضابط سابق.

ها هو إذن.. تراه ظاهرة ثقافية في عالم العسكر.. أم ظاهرة عسكرية في عالم ا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
رائعه احلام مستغانمي (( ذاكره الجسد )) الفصل االرابع الجزء الاول
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» رائعه احلام مستغانمي (( ذاكره الجسد )) الفصل االرابع الجزء الثاني
» رائعه احلام مستغانمي (( ذاكره الجسد ) الفصل الاول الجزء الاول
» رائعه احلام مستغانمي (( ذاكره الجسد )) الفصل الخامس الجزء الاول
» رائعه احلام مستغانمي (( ذاكره الجسد )) الفصل االثالث الجزء الاول
» رائعه احلام مستغانمي (( ذاكره الجسد )) الفصل االثاني الجزء الاول

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
مركز الصفوة الثقافي :: أدبــــــيـــــــات :: النثر-
انتقل الى: