الفصل الثالث الجزء الثاني
وكنت اتصلت به لأطلب منه حذف أو تغيير بعض الكلمات التي جاءت في ديوانه، والتي كانت تبدو لي قاسية تجاه بعض الأنظمة.. وبعض الحكام العرب بالذات، والذين كان يشير إليهم بتلميح واضح، ناعتاً إياهم بكل الألقاب.
لم أنسَ أبداً نظرته ذلك اليوم.
توقّفت عيناه عند ذراعي المبتورة لحظة، ثم رفع عينيه نحوي في نظرة مهينة وقال:
" لا تبتر قصائدي سيّدي.. ردّ لي ديواني، سأنشره في بيروت".
شعرت أن الدم الجزائري يستيقظ في عروقي، وأنني على وشك أن أنهض من مكاني لأصفعه. ثم هدأت من روعي، وحاولت أن أتجاهل نظرته وكلماته الاستفزازية.
ما الذي شفع له عندي في تلك اللحظة؟
ترى هويّته الفلسطينية، أو تلك الشجاعة التي لم يواجهني بها كاتب قبله، أم ترى عبقريّته الشعرية؟ فقد كان ديوانه أروع ما قرأت من الشعر في ذلك الزمن الرديء. وكنت أؤمن في أعماقي أن الشعراء كالأنبياء هم دائماً على حق.
تلقَّيت كلماته كصفعة أعادتني إلى الواقع، وأيقظتني بخجل. لقد كان ذلك الشاعر على حق، كيف لم أكتشف أنني لم أكن أفعل شيئاً من سنوات سوى تحويل ما يوضع أمامي من إنتاج إلى نسخة مبتورة مشوّهة مثلي؟
قلت له متحدياً، وأنا ألقي نظرة غائبة على غلاف تلك المخطوطة: "سأنشره لك حرفياً".
كان في موقفي شيء من "الرجولة"، تلك الرجولة أو الشجاعة التي كان لا يمكن لموظف مهما كان منصبه أن يتحلى بها، دون أن يغامر بوظيفته، لأن الموظّف في النهاية هو رجل استبدل برجولته كرسيّاً!
سبب لي ديوانه عند صدوره بعض المتاعب. شعرت أن هناك شيئاً من الزيف الذي لم أتحمّله.
ما الذي يمنعني من فضح أنظمة دموية قذرة، مازلنا باسم الصمود ووحدة الصفّ، نصمت على جرائمها؟ ولماذا من حقّنا أن ننتقد أنظمة دون أخرى حسب النشرات الجوية، والرياح التي يركبها قبطان بواخرنا؟
بدأ شيء من اليأس والمرارة يملأني تدريجياً. هل أغير وظيفتي لأستبدل بمشكلاتي مشاكل أخرى، وأصبح هذه المرة طرفاً في لعبة أخرى؟
ماذا أفعل بكل ما كدّست وجمعت من أحلام طوال سنوات غربتي ونضالي، وماذا أفعل بسنواتي الأربعين، وبذراعي المبتورة، وبذراعي الأخرى؟
ماذا أفعل بهذا الرجل المكابر العنيد الذي يسكنني، ويرفض أن يساوم على حريته، وبذلك الرجل الآخر الذي لا بد أن يعيش ويتعلم الجلوس على المبادئ.. ويتأقلم مع كل كرسي.
كان لا بد أن أقتل أحدهما ليحيا الآخر... وقد اخترت.
كان لقائي بزياد منعطفاً في حياتي.
اكتشفت بعدها أن قصص الصداقة القوية، كقصص الحب العنيفة، كثيراً ما تبدأ بالمواجهة والاستفزاز واختبار القوى.
فلا يمكن لرجلين يتمتع كلاهما بشخصية قوية وبذكاء وحساسية مفرطة، رجلين حملا السلاح في فترات من حياتهما.. وتعودّا على لغة العنف والمواجهة، أن يلتقيا دون تصادم.
وكان لا بد لنا من ذلك الاصطدام الأول.. وذلك التحدي المتبادل لنفهم أننا من طينة واحدة.
بعدها أصبح زياد تدريجياً صديقي الوحيد الذي أرتاح إليه حقاً.
كان نلتقي عدة مرات في الأسبوع، نسهر ونسكر معاً، نتحدث طويلاً عن السياسة، وكثيراً عن الفنّ، نشتم الجميع ونفترق سعيدين بجنوننا.
كنا في سنة 1973. كان عمره ثلاثين سنة، وديوانين، ما يقارب الستِّين قصيدة، وما يعادلها من الأحلام المبعثرة.
وكان عمري بعض اللوحات، قليلاً من الفرح وكثيراً من الخيبات، وكرسيين أو ثلاثاً، تنقّلت بينها منذ الاستقلال، بشيء من الوجاهة، بسائق وسيارة.. وبمذاق غامض للمرارة.
ذات يوم، رحل زياد بعد حرب أكتوبر بشهرين أو ثلاثة. عاد إلى بيروت لينضمّ إلى الجبهة الشعبية التي كان منخرطاً فيها قبل قدومه إلى الجزائر.
ترك لي كلّ كتبه المفضّلة والتي كان ينقلها من بلد إلى آخر. ترك لي فلسفته في الحياة، وشيئاً من الذكريات، وتلك الصديقة التي كانت تزورني أحياناً لتسأل عن أخباره، تلك التي كان يرفض أن يكتب لها، وكانت ترفض أن تنساه.
قلت وأنت تخرجين من صمتك الطويل:
- ولماذا لم يكتب لها؟
قلت:
- ربما لأنه كان يكره التحرش بالماضي.. وربما كان يريد أن تنساه وتتزوج بسرعة، كان يريد لها قدراً آخر غير قدره.
سألتني:
- وهل تزوجت؟
قلت:
- لا أدري.. لقد فقدت أخبارها منذ عدة سنوات، ومن الأرجح أن تكون تزوجت. لقد كانت على قدر كبير من الجمال. ولكن لا أعتقد أن تكون قد نسيته، من الصعب على امرأة عرفت رجلاً مثل زياد أن تنساه..
شعرت في تلك اللحظة، أنك ذهبت بعيداً في أفكارك.
تراك كنت قد بدأت تحلمين به؟
تراني قد بدأت يومها باقتراف حماقاتي، الواحدة تلو الأخرى، وأنا أردّ بعد ذلك على أسئلتك الكثيرة حوله، بأجوبة تثير فيك فضول الأنثى والكاتبة في آن واحد؟
حدّثتك عن قصائده كثيراً، وعن ديوانه الأخير، الذي كتب قصائده كما يطلق بعضهم الرصاص في الأعراس والمآتم ليشيّعوا حبيباً أو قريباً.
كان هو يشيّع صديقاً قديماً اسمه الشعر، ويقسم أنه لن يكتب بعد اليوم سوى بسلاحه.
في الواقع، لم يكن ذلك الرجل يكتب. كان فقط يفرغ رشاشه المحشو غضباً وثورة في وجه الكلمات.
كان يطلق الرصاص على كل شيء حوله.. بعدما لم يعد يثق في شيء!
آخ.. كم كان زياد مدهشاً!
لا بد أن أعترف اليوم أنه كان مدهشاً حقاً، وأنني كنت أحمق. كان لا بد أن أحدثك عنه وأنا أتوهم أن الجبال لا تلتقي..
لماذا كنت أحدثك عنه بتلك الحماسة، وبتلك الشاعرية؟
أكنت أريد التقرب إليك به، وأقنعك من خلاله أن لي قرابة سابقة بالكتاب والشعراء، فأكبر بذلك في عينيك؟
أم كنت أصفه لك في صورته الأجمل، لأنني كنت أعتقد حتى ذلك اليوم أنني أشبهه، وأنني كنت أصف لك نفسي لا غير..
ربما كان كل هذا حقاً.. ولكن..
كنت أريد أيضاً، أن تكتشفي العروبة في رجال استثنائيين، كما لم تنجب هذه الأمة.
رجال ولدوا في مدن عربية مختلفة، ينتمون إلى أجيال مختلفة، واتجاهات سياسية مختلفة، ولكنهم جميعاً لهم قرابة ما بأبيك.. بوفائه وشهامته، بكبريائه وعروبته..
جميعهم ماتوا أو سيموتون من أجل هذه الأمة.
كنت لا أريد أن تنغلقي في قوقعة الوطن الصغير، وأن تتحولي إلى منقّبة للآثار والذكريات، في مساحة مدينة واحدة.
فكل مدينة عربية اسمها قسنطينة. وكل عربي ترك خلفه كل شيء وذهب ليموت من أجل قضية، كان يمكن أن يكون اسمه الطاهر..
وكان يمكن أن تكون لك قرابة به.
كنت أريد أن تملأي رواياتك بأبطال آخرين أكثر واقعية، أبطال تخرجين معهم من مراهقتك السياسية، ومراهقتك العاطفية.
ألم أقل لك ذلك اليوم _بحماقة_ "لو عرفتِ رجالاً مثل زياد.. لما أحببت بعد اليوم "زوربا" ولما كنت في حاجة إلى خلق أبطال وهميين. هنالك في هذه الأمة أبطال جاهزون بفوقون خيال الكتّاب..".
لم أكن أتوقع يومها أن يحصل كل الذي حصل، وأن أكون أنا الذي سيتحوّل ذات يوم إلى منقب يبحث بين سطورك عن آثار زياد، ويتساءل من منّا أحببت أكثر، ولمن بنيت ضريحك الأخير، وروايتك الأخيرة..
ألي.. أم له؟
في ذلك اليوم، وضعتِ فجأة قبلة على خدّي. وقلت بلهجة جزائرية ونحن على وشك أن ننهض للذهاب:
" خالد.. انحبك.."
توقف كل شيء لحظتها حولي، وتوقف عمري على شفتيك. وكان يمكن وقتها أن أحتضنك، أو أقبّلك.. أو أردّ عليك بألف.. ألف أحبك أخرى.
ولكنني جلست من دهشتي، وطلبت من النادل قهوة أخرى، وقلت لك أول جملة خطرت آنذاك في ذهني:
" لماذا اليوم بالذات؟"
أجبتني بصوت خافت:
- لأنني اليوم أحترمك أكثر. إنها أول مرة منذ ثلاثة أشهر تحدثني فيها عن نفسك. اكتشفت اليوم أشياء مدهشة. لم أكن أتصور أنك حضرت إلى باريس لهذه الأسباب. عادة يأتي الفنانون هنا بحثاً عن الشهرة أو الكسب لا أكثر. لم أتوقع أن تكون تخليت عن كل شيء هناك، لكي تبدأ من الصفر هنا..
قاطعتكِ مصحِّحاً لكلامك:
- لم أبدأ من الصفر.. نحن لا نبدأ من الصفر أبداً عندما نسلك طريقاً جديداً. إننا نبدأ من أنفسنا فقط. أنا بدأت من قناعاتي.
شعرت يومها أننا ندخل مرحلة أخرى من علاقتنا، وأنك عجينة تأخذ فجأة كل قناعاتي، وشكل طموحاتي وأحلامي القادمة.
تذكّرت جملة قرأتها يوماً في كتاب عن الرسم لأحد النقّاد تقول:
"إنّ الرسام لا يقدم لنا من خلال لوحته صورة شخصيّة عن نفسه. إنه يقدم لنا فقط مشروعاً عن نفسه ويكشف لنا الخطوط العريضة لملامحه القادمة".
وكنتِ أنتِ مشروعي القادم.
كنت ملامحي القادمة، ومدينتي القادمة. كنت أريدك الأجمل، أريدك الأروع.
كنت أريد لك وجهاً آخر، ليس وجهي تماماً، وقلباً آخر، ليس قلبي، وبصمات أخرى، لا علاقة لها بما تركه الزمن على جسدي وروحي من بصمات زرقاء.
يومها عرضت عليك بعد شيء من التردّد، أن تزوري ذات يوم مرسمي، لأريك ما رسمته في الأيام الأخيرة.
وكنت سعيداً أن تقبلي عرضي دون تردد أو خوف. فقد كنت أحرص على ألا تسيئي الظنّ بي. وكنت قررت أن ألغي ذلك العرض نهائياً إذا ما ضايقك.
ولكنك فاجأتني وأنت تصيحين بفرح طفلة عُرض عليها زيارة مدينة للألعاب:
- أو... رائع يسعدني حقاً أن أزوره!
في اليوم التالي، طلبتني هاتفياً لتخبريني أن عندك ساعتين وقت الظهر، يمكنك أن تزوريني خلالهما.
وضعت السماعة.. ورحت أحلم، أسبق الساعات، وأسبق الزمن.
أنت في بيتي.. أحقاً سيحدث هذا؟
أحقاً ستدقّين جرس هذا الباب، ستجلسين على هذه الأريكة، ستمشين هنا أمامي.
أنتِ.. أخيراً أنتِ؟
أخيراً سأجلس إلى جوارك، وليس مقابلاً لك. أخيراً لن يلاحقنا نادل بطلباته وخدماته. لن تلاحقنا عيون روّاد المقهى، ولا عيون الغرباء من المارة.
أخيراً يمكننا أن نتحدث، أن نحزن ونفرح، دون أن يكون من شاهد على تقلباتنا النفسية.
رحت من فرحي أشرع الباب لك مسبقاً، وأنا أجهل أنني أشرع قلبي للعواطف والزوابع.
أيّ جنون كان.. أن آتي بك إلى هنا، أن أفتح لك عالمي السريّ الآخر، أن أحوّلك إلى جزء من هذا البيت.
هذا البيت الذي أصبح جنّتي في انتظارك، والذي قد يصبح جحيمي بعدك.
أكنت عندئذٍ أعي كلّّ هذا؟ أم كنت سعيداً وأحمق كأيّ عاشقٍ لا يرى أبعد من موعده القادم؟
تساءلت بعدها.. إن كنت حقاً لا أريد غير إطلاعك على لوحتي الأخيرة.. وعلى حديقتي السرّيّة للجنون.
تذكّرت كاترين، وتلك اللوحة التي رسمتها لها اعتذارا لأنني ذات يوم، كنت عاجزاً عن أن أرسم شيئاً آخر غير وجهها، بينما كان الآخرون يتسابقون في رسم جسدها العاري، المعروض للوحي في قاعة للفنون الجميلة.
تذكّرت يوم عرضت عليها أن تزورني لأريها تلك اللوحة..
لم أتوقع أن تكون تلك اللوحة البريئة، سبباً بعد ذلك في علاقة غير بريئة دامت سنين.
أليس في دعوتي لك لزيارة مرسمي، شيء من قلّة التعقّل، ورغبة سرية لاستدراج الظروف لأشياء أخرى؟
تراني كنت أفعل ذلك، وأنا أستعيد جملة كاترين، وهي تستسلم لي في ذلك المرسم، وسط فوضى اللوحات المرسومة، واللوحات البيضاء المتّكئة على الجدران، وتقول لي بإشارة متعمدة:
- هذا مكان يغري بالحب..
فأجبتها بشيء من الواقعية:
- لم أكن أعرف هذا قبل اليوم..
فهل كان مرسمي يغري بالحب؟ أم أن في كل مكان للخلق جاذبية ما تغري بالجنون؟
ولكن، ورغم هذا كنت أدري أنك لم تكوني كاترين.. ولن تكونيها. فبيننا من الحواجز ما لن يحطمه أيّ جنون..
اليوم، بعد ستّ سنوات على تلك الزيارة، أستعيد ذلك اليوم، وكأنني أعيشه مرة أخرى، بكل هزّاته النفسية المتقلبة.
ها أنت تدخلين في فستان أبيض (لماذا أبيض؟)، يسبقك عطرك إلى الطابق العاشر. يسبقك القلب إلى المصعد ويهرول أمامك.
ها أنا أكاد أضع قبلة على خدك.. وإذا بي أصافحك (لماذا أصافحك؟).
أسألك هل وجدت البيت بسهولة فتأتي الكلمات بالفرنسية (لماذا أيضاً بالفرنسية؟) تراني كنت أبحث عن حرّيّة أو جرأة أكثر، داخل تلك اللغة الغريبة عن تقاليدي وحواجزي النفسية؟
على تلك الأريكة جلستِ.
قلت وأنت تلقين نظرة عامة على غرفة الجلوس:
- لم أكن أتصور بيتك هكذا. إنه رائع ومؤثث بكثير من الذوق!
سألتك:
- كيف كنت تتصورينه إذن؟
أجبتني:
- بفوضى.. وبأشياء أكثر.
قلت لك ضاحكاً:
- لست في حاجة إلى أن أسكن شقة مغبّرة، بأشياء كثيرة مبعثرة لأكون فنّاناً. إنها فكرة أخرى خاطئة عن الرسّامين. أنا مسكون بالفوضى، ولكنني لا أسكنها بالضرورة. إنها طريقتي الوحيدة، في وضع شيء من الترتيب داخلي.
لقد اخترت هذه الشقة الشاهقة، لأن الضوء يؤثثها وهو كل ما يلزم للرسام، فاللوحة مساحة لا تؤثث بالفوضى وإنما بالضوء ولعبة الظل والألوان.
فتحت نافذتي الزجاجية الكبيرة، ودعوتك للخروج إلى الشرفة.
قلت:
- انظري هذه النافذة، إنها الجسر الذي يربطني بهذه المدينة. من هنا، من شرفتي أتعامل مع سماء باريس المتقلّبة.
كل صباح تقدم لي باريس نشرتها النفسية، فأجلس هنا في الشرفة لأتفرج عليها وهي تنقلب من طور إلى آخر.
يحدث كثيراً أن أرسم أمام هذه النافذة، ويحدث أن أجلس في الخارج لأتفرج على نهر السين، وهو يتحول إلى إناء يطفح بدموع مدينة تحترف البكاء.
يحلو لي الجلوس هنا على حافّة المطر قريباً ومحمياً منه في آن واحد. منظر المطر يستدرجني لأحاسيس متطرفة.
" إن الإنسان ليشعر أنه في عنفوان الشباب عند نزول المطر"
عندئذٍ، نظرت إلى السماء وكأنك تصلين لتمطر، وقلت بالعربية:
- إن المطر يغريني بالكتابة.. وأنت؟
وكنت على وشك أن أجيبك " وأنا يغريني بالحب".
نظرت طويلاً إلى السماء. كانت صافية زرقاء كسماء حزيران.
كان زرقتها تضايقني فجأة، ربما لأنني تعودت أن أراها رمادية.
وربما لأنني تمنيت في سرّي، لو أمطرت لحظتها؛ لو تواطأت معي ورمتك إلى صدري عصفورة مبللة.
ولم أقل لك شيئاً من كل هذا.
نقلت نظرتي من السماء إلى عينيك.
كنت أراهما لأول مرة في الضوء. شعرت أنني أتعرف عليهما.
ارتبكت أمامهما كأول مرة. كانتا أفتح من العادة، وربما أجمل من العادة.
كان فيهما شيء من العمق والسكون في آن واحد. شيء من البراءة، والمؤامرة العشقية..
تراني أطلت النظر إليك؟ سألتني بطريقة من يعرف الجواب مسبقاً:
- لماذا تنظر إليّ هكذا؟
كان صوتك بالعربية يأتي كموسيقى عزف منفرد.
وجدت الجواب في قصيدة، حفظت مطلعها ذات يوم:
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
سألتني مدهوشة:
- أتعرف شعر السياب أيضاً؟. عجيب!
قلت في جواب مزدوج:
- أعرف "أنشودة المطر".
عرت أنك ربما أحببتني أكثر تلك اللحظة بالذات، وكأنني أصبحت في نظرك السيّاب أيضاً.
وككل مرة أفاجئك فيها ببيت شعر، أو بمقولة ما باللغة العربية، سألتني:
- متى قرأت هذا؟
أجبتك هذه المرة:
- أنا لم أفعل شيئاً عزيزتي سوى القراءة. ثروة الآخرين تعدّ بالأوراق النقدية، وثروتي بعناوين الكتب. أنا رجل ثري كما ترين.. قرأت كلّ ما وقعت عليه يدي.. تماماً كما نهبوا كل ما وقعت عليه يدهم!.
بعدها قلت وأنت تحدقين في ذلك الجسر الحجري الرمادي، الذي يجري تحته نهر السين بزرقة صيفية استثنائية:
- أنت محظوظ بهذا المنظر، جميل أن تطلّ شرفتك على نهر السين، ما اسم هذا الجسر؟
قلت:
- إنه جسر ميرابو. اكتشفت أخيراً أن " أبولينير" قد خلّد هذا الجسر في قصائده، عثرت على بعضها منذ أيام في ديوان له. يبدو أنه كان مولعاً به. إن الشعراء مثل الرسامين لهم عادة لا تقاوم في تخليد كل مكان سكنوه أو عبروه بحب. بعضهم خلّد ضيعة مجهولة، وآخر مقهى كتب فيه يوماً، وثالث مدينة عبرها مصادفة، وإذا به يقع في حبها إلى الأبد.
سألتني:
- وهل رسمت أنت هذا الجسر؟
- أجبتك متنهداً:
- لا.. لأننا لا نرسم بالضرورة ما نرى.. وإنما ما رأيناه يوماً ونخاف ألا نراه بعد ذلك أبداً. وهكذا قضى (دولاكروا) عمره في رسم مدن مغربية لم يسكنها سوى أيام، وقضى (أطلان) عمره في رسم مدينة واحدة.. هي قسنطينة.
لم أكن أعي هذه الحقيقة قبل أن أقف منذ شهرين في هذه الغرفة مقابلاً لهذه النافذة، لأرسم بشيء من التوتر الاستثنائي لوحتي الأخيرة.
كانت عيناي تريان جسر ميرابو ونهر السين. ويدي ترسم جسراً آخر ووادياً آخر لمدينة أخرى.
وعندما انتهيت، كنت رسمت قنطرة سيدي راشد ووادي الرمال.. لا غير. وأدركت أننا في النهاية لا نرسم ما نسكنه.. وإنما ما يسكننا.
سألتني بلهفة:
- هل يمكن أن أرى هذه اللوحة؟
قلت وأنا أقودك إلى مرسمي:
- طبعاً.
وقفت أمام تلك الغرفة الشاسعة الملأى باللوحات. رحت تنظرين إلى الجدران، وإلى ما اتكأ من اللوحات أرضاً بدهشة طفل في مدينة سحرية. ثم قلت بالانبهار نفسه:
- كم هو رائع كلّ هذا.. أتدري؟ لم يحدث أن زرت مرسماً قبل اليوم..
كنت أودّ أن أقول لك " ولم يحدث أن زارته امرأة قبلك، قبل اليوم".
ولكن لوحة كاترين المستندة على الجدار ذكّرتني بمرور امرأة أخرى من هنا. ذهب فكري عندها بعض الوقت عندما قلتِ فجأة:
- وأين هي اللوحة التي حدّثتني عنها؟
أخذتك إلى الطرف الآخر للقاعة، كانت اللوحة ما تزال منتصبة على خشبات الرسم، وكأنها تلغي بوضعها المميز ذاك، كل اللوحات الأخرى المبعثرة حولها.
هنالك علاقة عشقية ما بين أيّ رسام ولوحته الأخيرة. هنالك تواطؤ عاطفي صامت، لن يكسره سوى دخول لوحة عذرا أخرى إلى دائرة الضوء.
فالرسام مثل الكاتب لا يعرف كيف يقاوم النداء الموجع للّون الأبيض، واستدراجه إياه للجنون الإبداعي كلما وقف أمام مساحة بيضاء.
كيف إذن، ما زلت أقاوم منذ شهرين تحدي اللون الأبيض وإغراء كل اللوحات التي أشهرت في وجهي بياضها؟
ولماذا، رفضت أن أرسم شيئاً بعد لوحتي هذه، وفضّلت أن أبقيها هكذا على الخشبات نفسها، لأشهد لها أنها كانت سيدتي، وسيدة كل ما حولي من لوحات، وكأنني أرفض أن أحيلها إلى ركن أو جدار كما تحال عشيقة عابرة.
أيمكن ذلك.. وهي التي أعطتني من النشوة، ما لم تعطنيه حتى النساء؟
ربما.. لأنه لم يحدث قبلها أن مارست الحب رسماً.. مع الوطن!
قلت وأنت تتأملينها:
- إنها مشابهة للوحتك الأولى "حنين" ولكنها تختلف عنها، في الكثير من التفاصيل.. وخاصة في الألوان الترابية الخام التي استعملتها، إنها تعطيها نضجاً.. وحياة أكثر.
قلت وأنا أنقل نظري منها إليك:
- لقد بعثت فيها الحياة.. إنها أنتِ.
- أنا؟
- أتذكرين يوم قلت لك على الهاتف، لقد سهرت البارحة حتى ساعة متأخرة من الليل لأرسمك. اتّهمتني يومها بالجنون وخفت أن أكون قد فضحت ملامحك. لا تخافي، لن أرسمك أبداً ولن يعرف أحد أنك عبرت حياتي ذات يوم. إن للفرشاة شهامة أيضاً.
وأضفت:
أنت مدينة.. ولست امرأة، وكلما رسمت قسنطينة رسمتك أنت، ووحدك ستعرفين هذا..
قلت فجأة وأنت تشيرين بنظرة من عينيك إلى لوحة كاترين:
- وهي؟
كان في سؤالك شيء من عناد الأطفال وأنانيتهم، وشيء من عناد النساء وغيرتهنّ.
قلت وأنا أرفع تلك اللوحة من الأرض:
- هل تزعجك هذه اللوحة حقاً؟.
أجبت بشيء من الكذب الواضح:
- لا..
واصلت وأنا أشعر أنني قادر في تلك اللحظة على أن أرتكب أي جنون:
- إذا شئت سأتلفها أمامك..
صحت:
- لا، أأنت مجنون!
قلت بهدوء:
- لست مجنوناً.. وهذه اللوحة لا تعني شيئاً بالنسبة لي. إنها امرأة عابرة، في مدينة عابرة.
قلتِ بابتسامة مربكة وأنت تتأملينها:
- إنها مدينتك الأخرى.. أليس كذلك؟
من أين جئت بتلك الرصاصة الأخيرة، لتطلقيها على تلك اللوحة؟
اعترفت لك بتلميح واضح:
- لا.. ليست مدينتي، إنها وسادتي الأخرى.. أو إذا شئت سريري الآخر فقط!
شعرت أن شيئاً من الحمرة قد علا وجنتيك، وأن عواطف وأحاسيس متناقضة قد عبرتك، وتركت آثارها على ملامحك التي تغيّرت في لحظات.
ثم تمتمت بهدوء وكأنك تتحدثين إلى نفسك:
-... لا يهم!
قلت لك وأنا أمسكك من ذراعك:
- لا تغاري من هذه اللوحة. هنالك امرأة واحدة تستحق أن تغاري منها في هذا البيت، هي هذه..
نظرت نحو المكان الذي أشرت إليه. كان ثمّة تمثال ينتصب على الأرض في حجم امرأة.
قلت بتعجّب:
- هذه.. لماذا هذه؟
قلت:
- لأنها المرأة الوحيدة التي ارتحت لها حتى الآن، والتي قاسمتني معظم سنوات غربتي. كنت في السابق أملك منها نسخة مصغرة. وقررت منذ سنتين أن أهدي نفسي تمثالها في حجمه الأكبر.
كانت تلك إحدى نوبات جنوني. ولكنني لم أندم على اقتنائها، إنها تشبهني كثيراً. أنا بذراع واحدة وهي بلا ذراعين. لقد فقدنا أطرافنا في أزمنة مختلفة، لأسباب مختلفة. ولكننا صامدان معاً، لن تمنعنا عاهتنا من الخلود.
لم تعلّقي على كلامي.
يبدو أنك لم تصدقي ذلك. أن يعيش رجل مع تمثال لامرأة، ضرب من الجنون أليس كذلك؟ حتى لو كان الرجل رسّاماً، وكانت المرأة فينوس لا غير!
المشكلة معك.. أنك كنت مأخوذة بالعبقرية التي تلامس الجنون. ولكنك كنت أعقل من أن تكشفيها. ولذا كلما أردت أن أعطيك دليلاً على جنوني، لم تكوني تصدقيني تماماً.
رحتِ فقط بحماقة أنثى، تسترقين النظر إلى لوحة كاترين، وكأنها وحدها تعنيك. ورحت أنا أحاول فهمك.
ما الذي كان يزعجك في تلك اللوحة؟ هل وجودها في تلك اللحظة بيننا بحضورها الصامت الذي يذكّرك بمرور امرأة أخرى في حياتي؟ أم شقرة تلك المرأة، والإغراء الاستفزازي لشفتيها وعينيها المختفيتين خلف خصلات شعر فوضوي؟
أكنت تغارين من اللوحة أم من صاحبتها؟ وكيف يكون من حقك أن تعاتبيني على لوحة واحدة رسمتها لامرأة، دون أن يكون لي الحق في أن أحاسبك على كل ما كتبته قبلي، وعلى ذلك الرجل الذي عذّبتني به صدقاً أم كذباً؟
عادت عيناك إلى اللوحة الأخيرة. تأملتها قليلاً ثم قلت:
- إذن هذه.. أنا!
قلت:
- ربما لم تكوني أنت، ولكن هكذا أراك، فيك شيء من تعاريج هذه المدينة؛ من استدارة جسورها، من شموخها، من مخاطرها، من مغارات وديانها، من هذا النهر الزبديّ الذي يشطر جسدها، من أنوثتها وإغرائها السري ودوارها.
قاطعتني مبتسمة:
- أنت تحلم.. كيف يمكن لك أن تجد قرابة بيني وبين هذا الجسر؟
كيف خطرت فكرة كهذه بذهنك؟! أتدري أنني لا أحب سوى الجسور الخشبية الصغيرة تلك التي نراها في بطاقات نهاية السنة، مرشوشة بالثلج والفضة، تعبرها العربات الخرافية. وأما جسور قسنطينة الجديدة المعلّقة في الفضاء، فهي جسور مخيفة.. حزينة. لا أكر أنني عبرتها مرة واحدة راجلة، أو حاولت مرة واحدة النظر منها إلى أسفل.. إلا شعرت بالفزع والدوار.
قلت:
- ولكن الدوار هو العشق؛ هو الوقوف على حافة السقوط الذي لا يقاوم؛ هو التفرج على العالم من نقطة شاهقة للخوف؛ هو شحنة من الانفعالات والأحاسيس المتناقضة، التي تجذبك للأسفل والأعلى في وقت واحد، لأن السقوط دائماً أسهل من الوقوف على قدمين خائفتين! أن أرسم لك جسراً شامخاً كهذا، يعني أن أعترف لك أنك دواري. إنه ما لم يقله لك رجلٌ قبلي.
أنا لا أفهم أن تحبّي قسنطينة وتكرهي الجسور؛ وتبحثي عن الإبداع، وأنت تخافين الداور. لولا الجسور لما كانت هذه المدينة. ولولا شهقة الدوار، لما أحبّ أحد.. أو أبدع.
كنت تستمعين إليّ، وكأنك تكتشفين شيئاً لم تنتبهي له من قبل برغم بساطته.
غير أنك قلت:
- ربما كنت في النهاية على حق، ولكنني كنت أفضل لو رسمتني أنا وليس هذا الجسر. إن أي امرأة تتعرف على رسام، تحلم في سرّها أن يخلّدها، أن يرسمها هي.. لا أن يرسم مدينتها؛ تماماً كما أنّ أيّ رجل يتعرف على كاتبة، يتمنى أن تكتب عنه شيئاً، وليس عن شيء آخر له علاقة به. إنها النرجسية.. أو الغرور أو أشياء أخرى لا تفسير لها.
فاجأني اعترافك. شعرت بشيء من الخيبة.
هل رسمت نسخة مزوّرة عنك إذن؟ أحقّ أنه ليس بينك وبين هذا الجسر من قرابة؟ أكانت هذه اللوحة نسخة طبق الأصل عن ذاكرتي.. وأن حلمك في النهاية، أن تصبحي نسخة أخرى عن كاترين لا غير، أن تتحولي إلى لوحة عادية، مفضوحة المزاج، ووجه بكثير من المساحيق، يشبه وجهه؟
ترانا لم نَشْفَ من هذه العقدة؟
قلت لك بشيء من اليأس:
- إذا كان هذا ما تريدين.. سأرسمك.
أجبتني بصوت فيه خجل ما:
- أعترف أنني منذ البداية، كنت أحلم أن ترسمني أنا.. وأن أحتفظ بهذه اللوحة عندي كذكرى، شرط ألا تضع عليها توقيك إذا أمكن..
شعرت برغبة في الضحك، أو على الأرجح برغبة في الحزن، وأنا أكتشف ذلك المنطق العجيب للأشياء.
كان من حقي إذن أن أوقع الرموز واللوحات التي ليس بينها وبينك من شبه. وأما أنت فليس في وسعي أن أضع أسفل رسمك توقيعي. أنت المرأة الوحيدة التي أحببتها، لن يقترن اسمي بك ولو مرة واحدة، حتى في أسفل لوحة؟
هناك إذن الذين يشترون توقيعي فقط، وليس لوحاتي. وهناك أنت التي تريدين لوحتي دون توقيع.
وهنالك أنا.. المجنون العنيد الذي يرفض هذا المنطق الجديد للأشياء، ويرفض باسم الحبّ أن يحولك إلى لوحة لقيطة، لا نسب لها ولا صاحب. يمكن أن تتبنّاها أية ريشة وأي رسام.
حيّرك صمتي.. قلت شبه معتذرة:
- هل يزعجك أن ترسمني؟
قلت ساخراً:
- لا.. كنت أكتشف فقط مرة أخرى، أنك نسخة طبق الأصل عن وطن ما، وطن رسمت ملامحه ذات يوم. ولكن آخرين وضعوا إمضائهم أسفل انتصاراتي. هنالك إمضاءات جاهزة دائماً لمثل هذه المناسبات. فمن الأزل، كان هنالك دائماً من يكتب التاريخ، وهنالك من يوقّعه، ولذا أنا أكره اللوحات الجاهزة للتزوير.
تراك فهمت كل ما قلته لك لحظتها؟
بدأت أشكّ فجأة في وعيك السياسي. لقد كان كلّ ما يهمّك في النهاية، هو موضوع لوحتك لا غير.
قلت وأنت تغادرين المرسم:
- أتدري أننا لن نلتقي لمدة شهرين؟ سأسافر الأسبوع القادم إلى الجزائر..
صحت وأنا أستوقفك في الممر:
- أحقٌ ما تقولين؟
قلت:
- طبعاً أنا أقضي دائماً عطلتي الصيفية مع والدتي في الجزائر. ولا بدّ أن أعود الأسبوع القادم مع عمي وعائلته.. لن يبقى أحد هنا في باريس.
وقفت مذهولاً وسط الممشى. أمسكت بذراعك وكأنني أمنعك من الرحيل،
وسألتك بحزن:
- وأنا..؟
- أنت.. سأشتاق إليك كثيراً. أعتقد أننا سنتعذّب بعض الشيء.. إنه فراقنا الأول. ولكن سنحتال على الوقت ليمرّ بسرعة.
ثم أضفتِ بلهجة من يريد أن يحل مشكلة، أو ينتهي منها بسرعة:
- لا تحزن.. يمكنك أن تكتب لي أو تطلبني هاتفياً.. سنبقى على اتصال.
كنت على حافة البكاء.
كطفل أخبرته أمه أنها ستسافر دونه. وكنت أنت تزفّين لي ذلك الخبر، بشي من السادية التي أدهشتني. وكأن عذابي يغريك بشيء ما.
هل أمسك بأطراف ثوبك كطفل وأجهش بالبكاء؟
هل أتحدث إليك ساعات، لأقنعك أنني لن أقدر بعد اليوم على العيش بدونك، وأن الزمن بعدك لا يقاس بالساعات ولا بالأيام، وأنني أدمنتك؟
كيف أقنعك أنني أصبحت عبداً لصوتك عندما يأتي على الهاتف؟ عبداً لضحكتك، لطلتك، لحضورك الأنثوي الشهيّ، لتناقضك التلقائيّ في كل شي وفي كل لحظة. عبدٌ لمدينة أصبحت أنت، لذاكرة أصبحت أنت، لكل شي لمسته أو عبرته يوماً.
كان الحزن يهجم عليّ فجأة، وأنا واقف هكذا في ذلك الممر أتأملك بذهول من لا يصدق.
وكنت قريبة مني حد الالتصاق، كما لم يحدث أن كنته يوماً. بحثت في ملامحك عن شيء يفضح لي في تلك اللحظة عواطفك؛ لكنني لم أفهم شيئاً.
أتراه عطرك الذي كان يخترق حواسي ويشلّ عقلي، هو الذي جعلني عندئذٍ لا أتعمّق في البحث؟ كنت أعي فقط أنك بعد لحظات ستكونين بعيدة، بقدر ما كنت ساعتها قريبة.
رفعت وجهك نحوي.
كنت أريد أن أقول لك شيئاً لم أعد أذكره. ولكن قبل أن أقول أيّة كلمة، كانت شفتاي قد سبقتاني وراحتا تلتهمان شفتيك في قبلة محمومة مفاجئة. وكانت ذراعي الوحيدة تحيط بك كحزام، وتحولك في ضمة واحدة إلى قطعة مني.
انتفضت قليلاً بين يدي كسمكة خرجت لتوّها من البحر، ثم استسلمت إليّ.
كان شعرك الطويل الحالك، ينفرط فجأة على كتفيك شالاً غجرياً أسود، ويوقظ رغبة قديمة لإمساكك منه، بشراسة العشق الممنوع. بينما راحت شفتاي تبحثان عن طريقة تتركان بها توقيعي على شفتيك المرسومتين مسبقاً للحب.
كان لا بدّ أن يحدث هذا..
أنت التي تضعين الظلال على عينيك، والحمى على شفتيك بدل أحمر الشفاه، أكان يمكن أن أصمد طويلاً في وجه أنوثتك؟ ها هي سنواتي الخمسون تلتهم شفتيك، وها هي الحمّى تنتقل إليّ، وها أنا أذوب أخيراً في قبلة قسنطينية المذاق، جزائرية الارتباك.
لا أجمل من حرائقك.. باردةٌ قُبل الغربة لو تدرين. باردةٌ تلك الشفاه الكثيرة الحمرة والقليلة الدفء. باردٌ ذلك السرير الذي لا ذاكرة له.
دعيني أتزود منك لسنوات الصقيع. دعيني أخبّئ رأسي في عنقك. أختبئ طفلاً حزيناً في حضنك.
دعيني أسرق من العمر الهارب لحظة واحدة، وأحلم أن كل هذه المساحات المحرقة.. لي.
فاحرقيني عشقاً، قسنطينة!
شهيّتين شفتاك كانتا، كحبّات توت نضجت على مهل. عبقاً جسدك كان، كشجرة ياسمين تفتحت على عجل.
جائع أنا إليك.. عمر من الظمأ والانتظار. عمر من العقد والحواجز والتناقضات. عمر من الرغبة ومن الخجل، من القيم الموروثة، ومن الرغبات المكبوتة. عمر من الارتباك والنفاق.
على شفتيك رحت ألملم شتات عمري.
في قبلة منك اجتمعت كلّ أضدادي وتناقضاتي. واستيقظ الرجل الذي قتلته طويلاً مراعاة لرجل آخر، كان يوماً رفيق أبيك.
رجلٌ كاد يكون أباك.
على شفتيك وُلدتُ ومتُّ في وقتٍ واحد. قتلت رجلاً وأحييت آخر.
هل توقّف الزمن لحظتها؟
هل سوّى أخيراً بين عمرينا، هل ألغى ذاكرتنا بعض الوقت؟
لا أدري..
كلّ الذي كنت أدريه، أنك كنت لي، وأنني كنت أريد أن أصرخ لحظتها كما في إحدى صرخات "غوته" على لسان فاوست "قف أيها الزمن.. ما أجملك!".
ولكن الزمن لم يتوقف. كان يتربص بي كالعادة. يتآمر عليّ كالعادة. وكنت بعد لحظات تتأملين ساعتك في محاولة لإخفاء ارتباكك، وتذكيري بضرورة عودتك إلى الجامعة.
عرضت عليك فنجان قهوة في محاولة أخيرة لاستبقاك.
قلت وأنت أمام المرآة تضعين شيئاً من الترتيب في مظهرك، وتصففين شعرك وتعيدين جمعه:
- أفضل شيئاً بارداًً إذا أمكن..
تركتك في الصالون وذهبت إلى المطبخ. تعمدت ألا أستعجل في العودة، وكأنني فجأة أخجل من آثار قبلي على شفتيك.
وعندما عدت بعدها، كنت أمام المكتبة تلقين نظرة على عناوين الكتب، وتقلّبين بعضها. ثم سحبت من أحد الرفوف كتاباً صغيراً، سألتني وأنت تنظرين إلى غلافه:
- أليس هذا الديوان لصديقك الشاعر الذي حدّثتني عنه؟
أجبتك بسعادة وأنا أجد أخيراً في ذلك الموضوع مخرجاً لارتباكي:
- نعم.. هناك ديوان آخر له أيضاً تجدينه على الرفّ نفسه.
قلت:
- هل اسمه زياد الخليل؟ لقد سمعت هذا الاسم قبل اليوم.
قلبتِ الكتاب. رأيتك تتأملين طويلاً صورته على ظهر الكتاب. تقرئين بعض السطور.. ثم قلت:
- أيمكن لي أن أستعير منك هذين الديوانين؟. أفضّل أن أقرأهما على مهل هذا الصيف، فليس لي ما أطالعه.
أجبتك بحماسة، أو بحماقة:
- طبعا، إنها فكرة جيدة.. أنا واثق أن هذين الديوانين سيتركان تأثيرهما على كتاباتك. ستجدين أشياء رائعة خاصة في الديوان الأخير "مشاريع للحبّ القادم". إنه أجمل ما كتب زياد.
رحت بسعادة تخفين الكتابين في حقيبة يدك. كنت وقتها في سعادة طفلة تعود إلى بيتها بلعبٍ أحبّتها.
طبعاً، لم أكن أعي في ذلك الحين، أنني سأكون بعد ذلك لعبتك الأخرى، وأن هذين الكتابين سيتركان تأثيرهما أيضاً على مجرى قصتنا.
كنت تستعيدين تدريجياً وجهك العادي وملامحك الطبيعية.
وكأن زوبعة حبّي لم تمرّ بك. فهل كان ذلك تمثيلاً أم حقيقة؟
حاولت أن أنسى خيبتي معك، أمام تلك اللوحة التي كانت السبب الأول في زيارتك. حاولت أيضاً أن أخفّف من خيبتك.
قلت:
- سأرسمك، ستكون لوحتك تسليتي في هذا الصيف..
ثم أضفت دون أية نية خاصة:
- يجب أن تزوريني مرة أخرى لتجلسي أمامي، حتى أتمكن من رسمك. أو تعطيني صورة لك أنقل عنها ملامحك.
قلتِ وكأن الجواب كان جاهزاً لديك:
- لم يبقَ أمامي متّسع من الوقت لأعود إليك هذه الأيام، وليس في حوزتي أية صورة. يمكنك أن تستعين بصورتي الموجودة على ظهر كتابي، في انتظار أن أعود.
أعترف أنني لم أفهم في ذلك الحين أيضاً، إذا كان في جوابك شيء من التلميح لي بأنك لن تعودي إلى هذا البيت، أم أنك كنت تجيبيني بتلقائية بريئة لا أكثر؟
ألست أنت التي كنت تلحّين عليّ أن أرسمك؟
فلماذا حوّلت هذه اللوحة إلى قضية شخصية أنا وحدي معنيّ بها؟
لم أناقشك كثيرا. كنت أدري أنني في جميع الحالات سأرسمك. ربما لأنني لا أعرف كيف أرفض لك طلباً، وربما لأنني لا أعرف كيف سأقضي الصيف دون استحضارك ولو رسماً.
ذهبت ذلك اليوم بعدما وضعت قبلتين على خدّي، ووعدتني بلقاء قريب. لم يعد ممكناً بعد قبلتنا أن نتصافح..
كنت أعي أنّ شيئاً ما قد تغيّر في علاقتنا، ولم يعد ممكناً بعد اليوم لذلك المارد الذي انطلق فجأة من أعماقنا، أن يعود إلى قلب الزجاجة التي أغلقناها عليه لأسابيع كاملة.
كنت أعي أنني أنتقل معك في بضع لحظات من الحب إلى العشق. من العاطفة البريئة إلى الشهوة، وأنه سيكون من الصعب، بعد اليوم، أن أنسى مذاق قبلتك، وحرارة جسدك الملتصق بي للحظات.
كم دامت قبلتنا تلك.. دقيقتين؟ ثلاثاً؟ أم خمس دقائق للجنون لا غير؟
أيمكن أن تفعل تلك الدقائق القليلة كل الذي حلّ بي بعد ذلك؟
أيمكن أن تلغي خمس دقائق، خمسين سنة من عمري؟
وكيف لم أشعر بعدها بأيّ إحساس بالندم، بأيّ خجل تجاه ذكرى سي الطاهر؟ أنا الذي كنت أقترف يومها أول خيانة بالمفهوم الأخلاقي للخيانة.
لا.. لم يكن في قلبي سوى الحب.
كنت ممتلئاً بالعشق، بالشهوة، بالجنون. كنت أخيراً سعيداً. فلماذا أفسد سعادتي بالندم، بالتساؤلات التي ستوصلني إلى التعاسة؟
لا أذكر من قال " الندم هو الخطأ الثاني الذي نقترفه.." ولم يكن في القلب مساحة أخرى ولو صغيرة، يمكن أن يتسلل منها شيء آخر غير؟ الحبّ.
ألم يكن كلّ ذلك جنوناً.
كيف سمحت لنفسي أن أكون سعيداً إلى ذلك الحدّ، وأنا أدري أنني لم أمتلك منك شيئاً في النهاية، سوى بضع دقائق للفرح المسروق، وأن أمامي متسعاً من العمر.. للعذاب؟
الفصل الرابع
كان لرحيلك مذاق الفجيعة الأولى. والوحدة التي أحالتني في أيام إلى مرتبة لوحة يتيمة على جدار، تحضرني جملة تبدأ بها رواية أحببتها يوماً..
"ما أعظم الله! فهو عظيم بقدر ما أنا وحيد. إني لأرى المؤلف فيبدو لي كلوحة.."
وكنت أنا في عزلتي ووحدتي، ذلك المؤلف وتلك اللوحة معاً. فما أكبر وأبرد ذلك الكون الذي كنت معلّقاً على جداره، في انتظارك!
كنت أدخل بعدك منحدرات الخيبات النفسية والعاطفية في الوقت نفسه. وأعيش ذلك القلق الغامض، الذي يسبق ويلي دائماً كل معرض لي. وكنت أقوم تلقائياً بجردة لأفراحي وخيباتي.
انتهى معرضي إذاً. لم تهتم به غير صحافة فرنسية مختصّة كالعادة. وبعض المجلات العربية المهاجرة.
ولكن يمكن أن أقول إنه حصل على تغطية إعلامية كافية، وأن الذين كتبوا عنه أجمعوا على أنه حدث فني عربي في باريس.
وحدها الصحافة الجزائرية تجاهلته، عن إهمال لا غير، كالعادة. جريدة ومجلة أسبوعية واحدة، كتبتا عنه بطريقة مقتضبة. وكأنهما تعانيان فعلاً من قلة الصفحات، وليس من قلة المواد الصحافية.
بينما لم يحضر ذلك الصديق الصحافي، الذي وعدني بالحضور إلى باريس لقضايا شخصية، ولإجراء مقابلة مطوّلة معي بالمناسبة نفسها. ورغم أنني رجل غير مولع بالأضواء، والجلوس لعدة ساعات إلى صحافي للحديث عن نفسي، فإنني كنت أتمنى أن تتم تلك المقابلة، لأتمكن أخيراً من الحديث مطوّلاً إلى الشخص الوحيد الذي كان يعنيني حقاً.. القارئ الجزائري.
عبد القادر طلبني ليخبرني أنه اضطر للبقاء في الجزائر، لتغطية مهرجان ما من أحد المهرجانات التي ازدهرت هذه الأيام، لأسباب غامضة يعلمها الله.. وآخرون.
ولم أعتب عليه.. ليس هناك من مقارنة بين مهرجان أو ملتقى رسمي، يتم إعداده والإنفاق عليه بالعملة الصعبة وبين أي معرض مهما كان اسم صاحبه، والسنوات التي أخذتها منه تلك اللوحات.
في النهاية لا يمكن حتى أن أعتب على الصحافة الجزائرية.
ماذا يمكن أن يقدم معرض للوحات الفنية من متعة أو ترفيه للمواطن الجزائري الذي يعيش على وشك الانفجار، بل الانتحار، ولا وقت له للتأمل أو التذوق، والذي يفضّل على ذلك مهرجاناً لأغنية (الراي). يمكن أن يرقص.. ويصرخ.. ويغني فيها حتى الفجر، منفقاً على تلك الأغاني الشعبية المشبوهة، ما تجمّع في جيبه من دينارات، وما تراكم في جسده من "ليبيدو"؟
تلك "الثروة" الوحيدة التي يملكها شبابنا حقاً، والتي كعملتنا يدري أين ينفقها خارج الأسواق السوداء.. للبؤس.
بعضهم أدرك هذا قبل غيره.
سنة 1969، وفي عزّ الفراغ والبؤس الثقافي الذي كان يعيشه الوطن، اخترع أحدهم في بضعة أيام، أكبر مهرجان عرفته الجزائر وإفريقيا، كان اسمه "المهرجان الإفريقي الأول"، دعيت إليه قارة وقبائل إفريقية بأكملها لتغني وترقص _عارية أحياناً_ في شوارع الجزائر لمدة أسبوع كامل على شرف الثورة!
كم من ملايين أنفقت وقتها، على مهرجان للفرح ظلّ الأول والأخير. وكانت أهم إنجازاته التعتيم على محاكمة قائد تاريخي كان أثناء ذلك، يستجوب ويعذّب رجاله في الجلسات المغلقة.. باسم الثورة نفسها.
ودون أن تكون لي صداقة ما بذلك القائد، الذي كان اسمه الطاهر أيضاً، ولا أيّ عداء خاص لذلك الحاكم الذي كان يوماً مجاهداً وقائداً أيضاً، بدأت أعي لعبة السلطة، وشراهة الحكم. وأصبحت أحذر الأنظمة التي تكثر من المهرجانات والمؤتمرات.. إنها دائماً تخفي شيئاً ما!.
فهل هي مصادفة أن تبدأ مشكلاتي من ذلك الحين، ويولد أول مذاق للمرارة في حلقي يومها؟
عندما التقيت بذلك الصديق بعد أشهر، اعتذر لي بأسف صادق، ووعدني ألا يفوّت معرضي القادم.
ربّتّ على كتفه ضاحكاً وقلت:
- لا يهم.. بعد أيام لن يذكر أحد اسم ذلك المهرجان. ولكن التاريخ سيذكر اسمي لا محالة ولو بعد قرن!
قال لي بمزاحٍ لا يخلو من الجد:
- أتدري أنك مغرور؟
أجبته:
- أنا مغرور لكي لا أكون "محقوراً" فنحن لا نملك الخيار يا صاحبي. إننا ننتمي إلى أمة لا تحترم مبدعيها وإذا فقدنا غرورنا وكبريائنا، ستدوسنا أقدام الأميين والجهلة!
تساءلت بعدها أأكون مغروراً حقاً؟
اكتشفت بعد شيء من التفكير، أنني لا أكون مغروراً إلا لحظة أقف أمام لوحة بيضاء وأنا ممسك بفرشاة. كم بلزمني من الغرور لحظتها لأهزم بياضها وأفضّ بكارتها، وأتحايل على ارتباكي بفائض رجولتي، وعنفوان فرشاتي؟
ولكن..
ما أكاد أنتهي منها، وأمسح يدي من كل ما علق بها من ألوان حتى أرتمي على الأريكة المجاورة، وأتأملها مدهوشاً، وأنا أكتشف أنني الوحيد الذي كان يعرق وينزف أمامها..
وأنها أنثى عربية تتلقى ثورتي ببرود وراثي مخيف!
.. ولذا، حدث في لحظات انهياراتي وخيباتي الكبرى أن مزّقت إحداهنّ وألقيت بها في سلة المهملات، بعدما أصبح وجودها يضايقني.
هنالك لوحات هي من السذاجة والبرودة بحيث تخلق عندك عقدة رجولة.. وليس فقط عقدة إبداع!
ورغم ذلك، لن يعرف أحد هذا. وربما لن يتوقع ضعفي وهزائمي السرية أحدٌ.
فالآخرون لن يروا غير انتصاراتي، معلّقة على الجدران في إطار جميل. وأما سلال المهملات، فستبقى دائماً في ركن من مرسمي وقلبي، بعيدة عن الأضواء.
فالذي يجلس أمام مساحة بيضاء للخلق، لا بدّ أن يكون إلهاً أو عليه أن يغّير مهنته.
أأكون إلهاً؟ أنا الذي حولني حبك إلى مدينة إغريقية، لم يبق منها قائماً غير الأعمدة الشاهقة المتآكلة الأطراف؟
هل يفيد شموخي، وملح حبك يفتت أجزائي من الداخل كل يوم؟ شهران.. ولا شي سوى رقم هاتفي مستحيل.. وكلمات تركتها لي تجفّ لها الفرشاة.
وإذا بالصمت يصبح لوني المفضل.
كنت أدرى جدلية الرسم والكتابة كما أردتها أنت.
كنت تفرغين من الأشياء كلما كتبتِ عنها، وكأنك تقتلينها بالكلمات. وكنت كلما رسمت امتلأت بها أكثر، وكأنني أبعث الحياة في تفاصيلها المنسية. وإذا بي أزداد تعلقاً بها، وأنا أعلقها من جديد على جدران الذاكرة.
أن أرسمك، أليس يعني أن أسكنك غرف بيتي أيضاً، بعدما أسكنتك قلبي؟
حماقة قرّرت في البدء ألا أرتكبها. ولكنني اكتشفت ليلا بعد آخر عبثية قراري.
لماذا كان الليل هزيمتي؟
ألأنني كلما خلوت بنفسي خلوت بك، أم لأن للفن طقوس الشهوة السرية التي تولد غالباً ليلاً في ذلك الزمان الخارج عن الزمن..
والخارج عن القانون؟
على حافة العقل والجنون.. في ذلك الحد الذي تلغيه العتمة والفاصل بين الممكن والمستحيل..
كنت أقترفك..
كنت أرسم بشفتي حدود جسدك.
أرسم برجولتي حدود أنوثتك.
أرسم بأصابعي كل ما لا تصله الفرشاة..
بيد واحدة كنت أحتضنك.. وأزرعك وأقطفك.. وأعرّيك وألبسك وأغيّر تضاريس جسدك لتصبح على مقاييسي.
يا امرأة على شاكلة وطن..
امنحيني فرصة بطولة أخرى. دعيني بيدِ واحدة أغير مقاييسك للرجولة ومقاييسك للحب.. ومقاييسك للذّة! كم من الأيدي احتضنتك دون دفء! كم من الأيدي تتالت عليك.. وتركت أظافرها على عنقك، وإمضاءها أسفل جرحك. وأحبتك خطأ.. وآلمتك خطأ.
أحبك السراق والقراصنة.. وقاطعوا الطرق. ولم تقطع أيديهم.
ووحدهم الذين أحبوك دون مقابل، أصبحوا ذوي عاهات.
لهم كل شيء، ولا شيء غيرك لي.
أنت لي الليلة ككل ليلة. فمن سيأخذ طيفك مني؟ من سيصادر جسدك من سريري؟ من سيسرق عطرك من حواسي؟ ومن سيمنعني من استعادتك بيدي الثانية؟
أنت لذّتي السرية، وجنوني السري، ومحاولتي السرية للانقلاب على المنطق.
كلّ ليلة تسقط قلاعك في يدي، ويستسلم حراسك لي، وتأتين في ثياب نومك لتتمددي إلى جواري، فأمرر يدي على شعرك الأسود الطويل المبعثر على وسادتي، فترتعشين كطائر بلّله القطر. ثم يستجيب جسدك النائم لي.
كيف حدث هذا.. وما الذي أوصلني إلى هذا الجنون؟
ترى صوتك الذي تعودت عليه حد الإدمان، صوتك الذي كان يأتي شلال حبّ وموسيقى، فيتدحرج قطرات لذة عليّ؟
حبك هاتف يسأل "واشك؟"
يدثرني ليلاً بلحاف من القبل. يترك جواري عينيه قنديل شوق، عندما تنطفئ الأضواء.
يخاف عليّ من العتمة، يخاف عليّ من وحدتي ومن شيخوختي. فيعيدني إلى الطفولة دون استشارتي. يقصّ عليّ قصصاً يصدّقها الأطفال. يغنّي لي أغنيات ينام لسماعها الأطفال.
تُرى أكان يكذب؟ هل تكذب الأمهات أيضاً؟
هذا ما لا يصدقه الأطفال!
ما الذي أوصلني إلى جنوني؟
ترى قبلتك المسروقة من المستحيل. وهل تفعل القبل كلّ هذا؟.
أذكر أنني قرأت عن قُبل غيرت عمراً ولم أصدّق..
كيف يمكن لنيتشه فبلسوف القوة والرجل الذي نظر طويلاً للجبروت والتفوق أن يقع صريع قبلة واحدة، سرقها مصادفة في زيارة سياحية إلى معبد، صحبة " Lou" المرأة التي أحبها أكثر من كاتب وشاعر في عصرها. كان أحدهم " أبولينير" الذي تغزّل فيها طويلاً وبكاها أمام هذا الجسر نفسه، واجداً في اسمها المطابق بالفرنسية تماماً لاسم الذئب " Loup" دليلاً قاطعا على قدره معها؟
أما (نيتشه) القائل "عندما تزور امرأة لا تنس أن تصحب معك العصا" فقد كان أمامها رجلاً محطما، ضعيفاً، وبدون إرادة. حتى إن أمه قالت يوماً "لم تترك هذه المرأة أمام ابني سوى اختيار من بين ثلاثة: إما أن يتزوجها.. أو ينتحر.. أو يصبح مجنوناً!".
كان هذا حال "نيتشه" يوم أحب. فهل أخجل من ضعفي معك، وأنا لست فيلسوفاً للقوة، ولست شمشون الذي فقد شعره وقوته الأسطورية بسبب قبلة؟
هل أخجل من قبلتك، وهل أندم عليها، أنا الذي بدأ عمري على شفتيك؟
لا أدري كيف شفي "نيتشه" من امرأة لم يتزوجها. هل انتحر أم أصبح مجنوناً؟
أدري فقط، أنني قضيت شهرين وسط تقلّبات نفسية متناقضة، كدت ألامس فيها شيئاً يشبه الجنون، ذلك الجنون الذي كان يغريك، وكنت تتغزّلين لي به كثيراً، وتعتبرينه الصك الوحيد الذي يشهد للفنان بالعبقرية.
فليكن.. سأعترف لك اليوم، بعد كل تلك السنوات، أنني وصلت معك يوماً إلى ذلك الحد المخيف من اللاعقل.
أكان عشقاً فقط، أم لأهديك لا شعورياً اللعبة التي لم تكوني قد حصلت عليها بعد: ذلك الرجل المجنون الذي تحلمين به.
حدث كثيراً وقتها، أن استعدت قصتي معك فصلا فصلا.
كنت كل مرة أقع على استنتاجات متناقضة. مرة يبدو لي حبك قصة أسطورية أكبر منك ومني. شيئاً ربما كان مقدراً مسبقاً منذ قرون، منذ.. كانت قسنطينة مدينة تدعى (سيرتا).
ومرة أتساءل، ماذا لو كنت رجلاً استوقفتك ذاكرته وأغراك جنونه بقصة ما؟
ماذا لو كنت مجرد ضحية لجريمة أدبية ما، تحلمين بارتكابها في كتاب قادم؟
ثم فجأة تطغى طفولتك على الجانب "الإجرامي" فيك، فأذكر أنني كنت أيضاً نسخة عن والدك. وأنني بسبب قبلة حمقاء نسفت إلى الأبد ذاك الجسر السري الذي كان يجمعنا.
آنذاك، كنت أقرر الاعتذار منك. وأستيقظ من نومي وأتجه إلى مرسمي. أجلس طويلاً أمام لوحتك البيضاء وأتساءل: من أين أبدأك؟
أتأمل طويلاً صورتك، على ظهر روايتك التي أهديتنيها دون إهداء. أكتشف أن وجهك لا علاقة له بالصورة. فكيف أضع عمراً لوجهك الجديد والقديم معاً. كيف أنقل عنك نسخة دون أن أخونك؟
أتذكر وسط ارتباكي ( ليوناردو دافنشي)، ذلك الرسام العجيب الذي كان قادراً على أن يرسم بيده اليمنى ويده اليسرى بالإتقان نفسه. بأي يد تراه رسم (الجوكندا) ليمنحها الخلود والشهرة؟ وبأي يد يجب أن أرسمك أنا؟
ماذا لو كنت المرأة التي لا ترسم إلا باليد اليسرى، تلك التي لم تعد يدي؟
خطر ببالي مرة أن أرسمك بالمقلوب. وأجلس لأتفرج عليك عساني أكتشف أخيراً سرك. فربما كانت هذه الطريقة الوحيدة لفهمك.
فكرت حتى في إمكانية عرض تلك للوحة مقلوبة في معرض. سيكون اسمها "أنت".
سيتوقف أمامها الكثيرون. وقد يعجبون بها، دون أن يتعرف أحدهم تماما عليك.
أليس هذا ما تريدين في النهاية؟!
***
مرّ أكثر من أسبوع، وأكثر من نشرة جوية قبل أن يأتي صوتك ذات صباح دون مقدمات:
- كيف أنت؟
اندهش القلب الذي لم يتوقع هدية صباحية كتلك. وارتبك